إن تغيير الدول وتحول بوصلتها صوب النهضة والرقي ليس بالأمر الصعب، ولا يحتاج إلى الكثير من الموارد رغم أهميتها، بقدر ما يحتاج إلى العزيمة القوية والإرادة الصلبة، والرغبة الحقيقية في التحول والنهوض، وامتلاك حلم الوصول إلى مصاف الدول المتقدمة، ويكفينا في هذا المقال أن نلقي نظرة على النهضة الكورية لتعلم دروسها وسلك مسارها والوقوف على أهم تحدياتها، تلك النهضة التي تخبرنا أكثر من غيرها بالعديد من الدروس المستفادة، والتي يسهل تطبيقها في عالمنا العربي، خصوصا وأننا قد تأخرنا كثيرا في هذا المقام، وسبقتنا دول وشعوب أقل منا خبرة وحضارة وإمكانات، بينما نحن لا نزال نعيش أجواء صراعات طائفية وحزبية كفيلة بأن تقضي علينا، وتجعلنا لقمة سائغة في وجه أعداء الأمة ممن يتربصون بنا ويعملون على هزيمتنا وكسر إرادتنا.لقد تأخرنا كثيرا في طريق النهوض الذي بدأناه منذ فترة طويلة وتحديدا منذ منتصف القرن الماضي عندما كنا واليابان نحاول معا الدخول لعالم النهضة، إلا أننا لم نكمل في نفس الطريق الذي سارت فيه اليابان بسرعة الصاروخ، ووصلت لما وصلت إليه اليوم من رقي وتقدم بالرغم مما تعرضت له خلال الحرب العالمية الثانية من ضربات نووية تسببت في مقتل الآلاف، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ونحن نسير للخلف وليس إلى الأمام، وبشكل بات يصيب المرء بالخيبة وانعدام الأمل.ولكن لكي تنهض الأمة من جديد فلا مجال لليأس ولا فقدان الأمل، فقد تعرضنا لنكسات وهزائم وأوضاع أصعب مما نعيشها اليوم، وكنا في كل مرة نخرج أصلب وأقوى، وهذه المرة لا يجب أن نفكر في الخروج من المأزق الذي تعيشه الأمة وحسب، بل نريد وضعها على بداية طريق النهضة، باعتباره الطريق الوحيد الموصل إلى الحرية والكرامة والقدرة على حماية الأراضي والمقدسات، وهذا ليس بالطريق الصعب ولا العسير في حال امتلكنا الإرادة والقدرة والرؤية والرغبة في التغيير والتطور.وبنظرة سريعة على النهضة الكورية سنجد فيها العديد من الدروس المستفادة التي يمكن أن تنور لنا الطريق، وتساعدنا في تخطي العديد من الصعاب التي تواجهنا، خصوصا وأن أوضاعنا الحالية تشبه إلى حد كبير ما عانت منه كوريا منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، إذا كانت كوريا الجنوبية من أفقر دول العالم، لدرجة وصلت لمطالبة ألمانيا من رئيس كوريا الجنوبية في ذلك الوقت إعارتها عمال للمناجم مقابل قرض تقدمه ألمانيا إلى كوريا، ليس هذا فحسب، بل واشترطت عليها الولايات المتحدة إعطاءها جنودا للحرب معها مقابل دعمها اقتصاديا، ولم تكن تملك كوريا في ذلك الوقت أي إمكانات تمكنها من أن تضع أي قدم على طريق النهضة، إلا أنها كانت تملك الإرادة والرؤية التي مكنتها من حسن توظيف القروض التي حصلت عليها من ألمانيا والولايات المتحدة لعمل بنية تحتية ووضع أساس بحثي وعلمي كفيل بمساعدتها في طريق النهضة.وبذلك يكون أول وأهم الدروس المستفادة من التجربة الكورية هو امتلاك الإرادة والرؤية للتغيير، فالشعب الكوري في بداياته لم يختلف كثيرا عن شعوبنا الحاضرة، حيث كان الكسل وعدم الاهتمام بالوقت وانتشار الفساد في المؤسسات الحكومية وغيره من صفات كفيلة بالقضاء على أي نهضة منتشرة في ذلك الوقت، ولكن إرادة القيادة السياسية في ذلك الوقت وجهد المخلصين من أبناء كوريا ساعد في تغيير تلك الصفات من خلال برامج محددة استهدفت تغيير الأوضاع الاقتصادية لبعض الفئات من خلال الاستفادة من الإمكانات المحدودية الموجودة في الدولة والمتمثلة في بعض الأراضي الزراعية التي تم تطويرها بشكل ساهم في زيادة الإنتاج بشكل لفت نظر بقية الفئات وجعلها تعمل على السير في نفس الطريق، هذا في الوقت الذي بدأت فيه كوريا إرسال أبنائها للتعلم في الخارج وتوفير كل مقومات النجاح لهم في الداخل لجذبهم ودفعهم للمساهمة بعلمهم ورقيهم في تقدم الدولة، وذلك كله بالتزامن مع تخطيط استراتيجي قصير وطويل المدى وعلى مستوى كل القطاعات التي بدأت سويا في التحول ووضع أقدام كوريا على بداية الطريق.ولا يختلف الأمر في كوريا عن نظيره في اوطاننا العربية، فطريق النهضة واحد وإن اختلفت مناهجه، ويمكننا نسخه وتكراره بما يتناسب مع أوضاعنا وظروفنا، فمواردنا كثيرة ونملك من العقول القادرة على تحويل تلك الموارد لنهضة حقيقية الكثير، ولا نحتاج سوى رغبة وإرادة في تحقيق النهضة، بدلا من ضياع تلك الثروات بهذا الشكل الذي يزيدنا ضعفا وهوانا بين الأمم، لدرجة أننا لم نعد نملك القدرة حتى عن الدفاع عن أنفسنا وأوطاننا. د.أسامة نورالدين كاتب وباحث علاقات دولية