.. واشتد المرض بالطفل، وخديجة مدهشة بالبكاء، وخيم على البيت الحزن، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) يصبر قلبها رغم أن الحزن يأخذ بتلابيب قلبه، فهو ولد أيضاً وفلذة كبده، ولكن ماذا يفعل أمام قضاء الله تعالى، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، يقول تعالى:(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (النحل ـ 40)، وتلاحقت أنفاس القاسم، وقتح عينيه ثم أغلقهما، وسلم أنفاسه، وصعدت روحه الطاهرة إلى باريها، وانهمرت العيون بالبكاء، وهي تنظر إلى القاسم الذى كان يرتع ويلعب بين والديه، وها هو جثة هامدة، في سكون وثبات لا تتحرك بعده أبداً، لن يتكلم القاسم ولن يتحرك مرة أخرى، خرج القاسم من الدنيا إلى غير رجعة، فمن تحدث أمه؟ وعلى من تنادى؟ وأنى له أن يرد وقد أخذه هازم اللذات، ومفرق الجماعات (الموت)، وينظر إليه والداه ولسان حالهما يقول إلى أين يا قاسم؟ هلا بقيت ولو لحظة؟ وأعينهما تناديه، وقلبيهما يرتجف عليه، ولن لابد من الفراق (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) (القيامة 26 ـ 30)، وكان لابد أن للجسد الطاهر أن يوارى الثرى، وكانت اللحظة التي تنظر فيه خديجة إلى ولدها النظرة الأخيرة، ولن تراه بعدها في الدنيا أبداً، وكفن محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد غسله، وحال قلب خديجة يتمزق حينما حمل القاسم إلى مثواه الأخير، ورجع أبوه بعد أن دفنه بيده، وأهال التراب عليه بنفسه، فوجد خديجة غارقة في بحار الحزن، وسابحة في غياهب الأتراح، فصبر وقال من الكلام ما يربط على قلبها، وتوسلاً إلى الله تعالى أن يعوضهما عنه خيراً، وبينما هما كذلك إذ سمعا بكاء طفل قريب، فهرعا إليه، فإذا هو صوت ابنتهما (زينب) فأخذت خديجة تقبلها وتضمها إلى صدرها متمنية أن تكون عوضا للقاسم، وظلت زينب بعد ذلك وحيده في بيت أبيها، وما كان يجعل عين خديجة تدمع أنها تنظر إلى ابنتها فتجدها تقلب بصرها يمنة ويسرة، وكأنها تسأل أين القاسم، فقد كان يلعب معي، وكان يقاسمني النوم والطعام، وكانت خديجة تندهش لذلك، كيف يبدو لطفلة لم تتجاوز العام أن تفهم مثل هذا؟، فكانت تعوضها عن فراق أخيها، بمداعبتها، واللعب معها، وما كان يحفف عنها الحزن أن زينب ملأت فراغ أمها، وعوضتها عن غياب القاسم بعض الشئ، وظلت زينب طيلة ما يقرب من عام بعد موت القاسم، وحدها في البيت، وكانت خديجة تحبها وتعطيها كل وقتها، وما أحمل أن يدخل أبوها فيبادر إليها بالتقبيل والمداعبة، حتى رزقهما الله تعالى (رقية)، (من كتابنا) قصة السيدة زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دروس وعبر ص:28 طبعة مكتبة زهران ـ مصر).
وعندما دفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلذة كبده ،ولده البكر (القاسم)، وقت إذ كان الأب في أشد الاحتياج إلى ولده، والابن أشد حاجة إلى أبيهفسرعان ما فارقه، وما كان الطفل قد شبع من قربه بجوار أبويه، ولم يهنأ بجوارهما، ولم يزدد من حنانهما وشفقتهما ورحمتهما به، وكما أن محمداً وخديجة لم يكونا قد شبعت عيونهما سعادة بقرة أعينهما (القاسم)، الطفل الذي زار الدنيا زيارة خاطفة، والقلوب للمزيد من رؤيته متلهفة ، والعيون لرؤية المزيد من جماله مشغوفة، لكن لا راد لقضاء الله، ولا مبدل لحكمه، واعتراض على إرادته، صعدت روح القاسم الطاهرة، وفارقت جسده الشريف، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزوجته راضيان محتسبان، فصبراً يا رسول الله، صبراً يا سيدي يا أبا القاسم، صبراً وأنت تواري فلذة كبدك الثرى، صبراً وأنت تودع ابنك بكرك الوداع الأخير. حقاً ـ إخواني الكرام ـ إنه مشهد صعب، وصعب جداً من يستطيع أن يتحمله كما تحمله رسول الله ، الناس حوله قد يبلغ الذكور لديهم من أبنائهم العشرة، بل وأكثر، وهو ولده البكر وليس له سواه ،ذكر ابْنُ إِسْحَاقَ بسنده قَالَ:أَكْبَرُ وَلَدِ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ) الْقَاسِمُ، ثُمَّ زَيْنَبُ، ثُمَّ عَبْدُ اللهِ، ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ رُقَيَّةُ. قَالَ مُصْعَبٌ: هُمْ هَكَذَا: الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، ثم مَاتَ الْقَاسِمُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَيِّتٍ مِنْ وَلَدِهِ، مَاتَ بِمَكَّةَ (سيرة ابن هشام (1: 207)، وها هو يفقده بأمر الذي يقولللشيء كن فيكون ، بل لم يبقى معه طويلا ليهنأ به، ولكن سرعان من فارقه إلى جنة عرضها السموات والأرض.

محمود عدلي الشريف
[email protected]