محمود عدلي الشريف:
.. فلّما ورد عليه كتاب أَبي بكر ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أقبل على أهل عُمان فقال:(يَا هَؤُلاءِ، إِنَّكُمْ قَدْ علمتم أن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ـ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ عَامِلا وَأَمِيرًا وَدَاعِيًا، فَقَبِلْتُمُ الأَمْرَ وَأَجَبْتُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَكُنْتُمْ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ قَامَ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ وَمَنْ أَطَاعَ النَّبِيَّ ـ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ـ حَيًّا، فَيَجِبُ أَنْ يُطِيعَهُ مَيِّتًا، وَقَدْ حَدَثَتْ هَذِهِ الرِّدَّةُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَيُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَرُدَّهُمْ إِلَى دِينِ الإِسْلامِ، وَهَذَا كِتَابُهُ أَتَى يَأْمُرُنِي بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَمَا الَّذِي عِنْدَكُمْ مِنَ الرَّأْيِ) ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ أَبُو صُفْرَةَ، وَاسْمُهُ ظَالِمُ بْنُ سَرَّاقٍ، قال المحقق: في الأصل:(أبو سفرة) بالسين، وهو أبو صفرة ظالم بن سارق أو سراق الأزدي العتكي البصري، والد المهلب بن أبي صفرة الأمير المشهور، قدم أبو صفرة على النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فأسلم، وقيل كان أبو صفرة مسلماً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولم يفد عليه، ووفد على عمر في عشرة من ولده أصغرهم المهلب، لم تذكر وفاته.(الإصابة 7/ 221 ـ 222، الاستيعاب 4/ 1692)، فَقَالَ:(يَا عَمْرُو، إِنَّا نُطِيعُكَ الْيَوْمَ بِطَاعَةِ أَمْسِ، وَنُطِيعُكَ غَدًا بِطَاعَةِ الْيَوْمَ، وَلا عَصَيْنَا مَنْ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، وَالسَّلامُ)، قَالَ: ثُمَّ وَثَبَ إِلَيْهِ عَبَّادُ بْنُ الْجَلَنْدِى ـ عباد بن الجُلندى، وقيل: عبد أو عبيد بن الجلندى الأزدي: أخو جيفر بن الجلندى ملك عمان، فَقَالَ:(يَا عَمْرُو، إِنَّ الْخِيَارَ ليس إلينا، ولكن الْخِيَارَ للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ اخْتَارَكَ وَأَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، وَطَاعَتُهُ مَيِّتًا كَطَاعَتِهِ حَيًّا، لَسْنَا نَكْرَهُ مُقَامَكَ وَالأَمْرُ إليك، والسلام).ثُمَّ وَثَبَ جَعْفَرُ بْنُ خَيْثَمٍ، فَقَالَ:(يَا عَمْرُو، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا فَدَعَوْتَنَا فَأَجَبْنَاكَ، فَإِنْ يَكُنِ الرَّسُولُ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيٌّ لا يَمُوتُ، فَإِنْ أَقَمْتَ عِنْدَنَا أَطَعْنَاكَ، وَإِنْ شِئْتَ الْمَسِيرَ خَفَرْنَاكَ وَالسَّلامُ)، فَقَالَ عَمْرٌو:(جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ وَأَحْسَنْتُمْ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَخْفِرُونِي)، فَقَالُوا:(نَفْعَلُ ذَلِكَ).فَتَجَهَّزَ عَمْرٌو، وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو صُفْرَةَ ظَالِمُ بْنُ سَرَّاقٍ، وَجُفَيْرُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الْجَلْنَدِيِّ فِي سَبْعِينَ فَارِسًا مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ عُمَانَ، فَأَنْشَأَ عُقْبَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْعَتَكِيُّ، قال المحقق: وهو العتكي نسبة إلى العتيك بن الأزد، وعقبة بن النعمان العتكي ممن ثبتوا على الإسلام زمن الردّة، وكان ممن شيع عمرو بن العاص في مسيره من عمان إلى المدينة بعد وفاة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فقدم ومن معه إلى أبي بكر فشكر لهم أبو بكر ثباتهم (الإصابة 5/ 131 ـ 132، أسد الغابة 4/ 61، تاريخ بغداد 2/ 195).
يَقُولُ فِي ذَلِكَ:(وَفَيْنَا لِعَمْرٍو يَوْمَ عَمْرٍو كَأَنَّهُ .. طَرِيدٌ نَفَتْهُ مَذْحِجٌ وَالسَّكَاسِكُ، رَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ أَعْظِمْ بِحَقِّهِ .. عَلَيْنَا وَمَنْ لا يَعْرِفِ الحقّ هالك) وذكر آيات كثيرة، قَالَ: وَقَدْ قَدِمَ الْقَوْمُ الْمَدِينَةَ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَلَّمُوا عليه، ثم أخذوا بضبع (بصبغ) وهو تصحيف، والضبع: العضد كلها وأوسطها بلحمها، أو الإبط إلى نصف العضد من أعلاه (القاموس: ضبع) عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا أَمِيرُنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الَّذِي وَجَّهَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ـ وَنَحْنُ لَهُ شَاكِرُونَ، وَهَذِهِ أَمَانَةٌ قَدْ كَانَتْ فِي أَعْنَاقِنَا، وَوَدِيعَةٌ كَانَتْ عِنْدَنَا، وَقَدْ تَبَرَّأْنَا مِنْهَا إِلَيْكُمْ، وَالسَّلامُ).قَالَ: فَأَثْنَى أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ ثَنَاءً حسنا، وجزأوهم خيرا. فأنشأ رجل من قريش يقول:(يا عبادا ويا بن سَارِقِ الْخَيْرِ .. يَا جُفَيْرُ بْنَ جِفْرٍ خَيْرَ هُمَامِ، قُمْتُمْ بِالَّذِي بُشِّرَ بِهَا الأَزْدُ .. وَقَدْ كُنْتُمْ بِذَا مَعَ الإِسْلامِ) وذكر أبيات كثيرة، قَالَ: وَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ وَأَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ بِقُدُومِ عَمْرٍو عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ إِلَى أَبَانِ بْنِ سَعِيدٍ يَسْتَقْدِمُهُ مِنْ أَرْضِ الْبَحْرَيْنِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ـ وَجَّهَهُ إِلَيْهَا أَمِيرًا، فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ نَادَى فِي أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ فَجَمَعَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ:(قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ ـ في الأصل: (يا أهل عمان) أَهْلَ عُمَانَ قَدْ وَفَّوْا لِصَاحِبِهِمْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ)، وذكر القصة، وجاء في كتاب (الردة) للواقدي، ص ـ 201) (.. وَكَانَ أَبُو صُفْرَةَ أَبُو الْمُهَلَّبِ مِمَّنْ نَزَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ عِمَارَتِهَا، فِيهَا خُطَطُ الْمَهَالِبَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وفي (الطبقات الكبرى، ط: العلمية 7/ 71): وقد كانوا أسلموا وقدم وفدهم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقرين بالإسلام فبعث عليهم مصدقًا منهم يقال له حذيفة بن اليمان الأزدي من أهل دباء وكتب له فرائض الصدقات فكان يأخذ صدقات أموالهم ويردها على فقرائهم. فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ارتدوا ومنعوا الصدقة. فكتب حذيفة إلى أبي بكر بذلك فوجه أبو بكر عكرمة بن أبي جهل إليه فالتقوا فاقتتلوا ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر فهزمهم الله. وأكثر فيهم القتل. ومضى فلهم إلى حصن دباء فتحصنوا فيه وحصرهم المسلمون في حصنهم ثم نزلوا على حكم حذيفة بن اليمان الأزدي فقتل مائة من أشرافهم وسبى ذراريهم وبعث بهم إلى أبي بكر إلى المدينة وفيهم أبو صفرة غلام فلم يبلغ يومئذ فأراد أبو بكر قتله. فقال عمر: يا خليفة رسول الله قوم إنما شحوا على أموالهم. فيأبى أبو بكر أن يدعهم. فلم يزالوا موقوفين في دار رملة بنت الحارث حتى تُوُفّي أبو بكر وولي عمر بن الخطاب فدعاهم فقال: قد أفضى إلي هذا الأمر فانطلقوا إلى أي البلاد شئتم فأنتم قوم أحرار لا فدية عليكم. فخرجوا حتى نزلوا البصرة ورجع بعضهم إلى بلاده فكان أبو صفرة وهو أبو المهلب ممن نزل البصرة وشرف بها هو وولده. وذكر صاحب "الكامل في التاريخ (2/ 713): وَقَالَ أَبُو صُفْرَةَ ـ وَالِدُ الْمُهَلَّبِ ـ لِزِيَادٍ: لَوْ أَدْرَكْتُ يَوْمَ الْجَمَلِ مَا قَاتَلَ قَوْمِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا صُفْرَةَ كَانَ تُوُفِّي فِي مَسِيرِهِ إِلَى صِفِّينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وفي (تاريخ الإسلام ت: تدمري 6/ 206): وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ أَبُو صُفْرَةَ مِنْ أَزْدَ دَبَاءَ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ، ارْتَدَّ قَوْمُهُ، فَقَاتَلَهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَظَفَرَ بِهِمْ، فَبَعَثَ بِذَرَارِيهِمْ إِلَى الصِّدِّيقِ، فِيهِمْ أَبُو صُفْرَةَ وولده المهلب غُلامٌ لَمْ يَبْلُغْ، ثُمَّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ فِي إِمْرَةِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: كَانَ الْمُهَلَّبُ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ فِي الْكُتَّابِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، وفي (البداية والنهاية، ط: الفكر 9/ 42): بَعَثَ بِهِمْ إِلَى الصِّدِّيقِ وَفِيهِمْ أَبُو صُفْرَةَ وَابْنُهُ الْمُهَلَّبُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، ثُمَّ نَزَلَ الْمُهَلَّبُ الْبَصْرَةَ .. والقصة طويلة.
*[email protected]