من السلوكيات التي ألفناها، وتربينا عليها، ونمارسها يوميًا فيما بيننا، وقد يظنها الكثير عادة من العادات التي تعود عليها الأولون، أو عرفًا تعارف عليه السابقون، لا معنى لها ولا أثر ولا قيمة، إنها (المصافحة) وهي شكل من أشكال لغة الجسد، لها من أهمية كبيرة في ربط وإصرار الإنسانية، واكتشاف الكثير من جوانب شخصية المتصافحين، وجميعنا يعلم أن لغة الجسد لها تأثير كبير جداً في طريقة حديثنا، وفي كيفية تعاملنا مع الناس، فهي التي تعبر عنا، وعن مدى صدقنا، وعن ثقتنا في أنفسنا.
إن المصافحة من مكارم الأخلاق ومن محاسن الفضائل وعلامات المروءة، وهي سجية معروفة منذ قديم الزمان قبل الإسلام، فأقرها النبي (صلى الله عليه وسلم) لما لها من فوائد وآثار طيبة، وحثّ عليها وبيّن فضلها لأنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق.
يقول النبي (صلى الله عليه وسلم):(مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا) (رواه أبو داود، رقم 5212)، وعن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلّم عليه، وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما، كما يتناثر ورق الشجر)، وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(إذا تصافح المسلمان، لم تتفرق أكفهما حتى يغفر لهما) لذلك كانت المصافحة من السجايا المشهورة بين الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم، فعَنْ قَتَادَةَ قَالَ:(قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: هَلْ كَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ) (رواه البخاري، رقم 6263).
وعليه فمن السنة أن يصافح المسلم أخاه المسلم إذا لقيه، فالمصافحة عند اللقاء من آداب الإسلام وأخلاقه الكريمة، فهي تعبير عن المحبة والمودة بين المتصافحين.
نعم .. المصافحة خلق رفيع، وسجية حميدة، وبادرة خير، وسنة نبوية تناقلتها الأجيال المسلمة، إنها سلوك إنساني رائع، وأدب اجتماعي كريم، إنها فضيلة تدل على الاحترام والتقدير، وتدل على الألفة والمودة، وتدل على السلام والثقة، وتدل على صفاء السريرة ونقاء السيرة، تتضمن في طياتها معاني الإنسانية النبيلة، فهي تعمق الحب والألفة والثقة بين الناس، وتذهب الغل والحقد والكراهية بينهم.
إن المصافحة أكثر من تكون مجرد مد اليد للترحيب والإفصاح عن الثقة والإرادة الطيبة والتعبير الصادق عن المودة والاحترام، بل المصافحة أيضًا تكشف حقيقة المشاعر والأحاسيس بين الناس.
فالمصافحة وإن لم تكن تستغرق أكثر من أربع ثوان، لكنها لها تأثير عجيب في النفس أكثر من قول كلمة: مرحباً، أو أهلًا، ولمزيد من الفاعلية والحميمية للمصافحة أن تنظر في عيني من تصافحه وتتبع ذلك بابتسامة صادقة، وتنطق باسمه وتسأله عن حاله وصحته، فتجتمع لغة الملامسة باليد، ولغة النظر بالعين، ولغة الوجه بالابتسامة، ولغة الكلام باللسان، إنها ترجمة لما استقر في القلب اتجاه من تصافحه، فيا لها من تأثير عجيب في نفسي المتصافحين، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم):(تبسمك في وجه أخيك صدقة).
إذا كانت المصافحة باليد الواحدة تعبير عن المودة والإخاء وتصافي القلوب والنفوس، فإن المصافحة بكلتا اليدين، تزيد من ذلك إذ تدل على مزيد من المودة والاحترام والتقدير والارتياح وأن من تصافحه هو محل اهتمام خاص، وترحيب حقيقي، وقد أثبتت الدراسات أن المصافحة بكلتا اليدين تحقق أعلى درجات الألفة والتقارب، وتدل على أسمى علامات التقدير والاحترام.
تتعدد وسائل الترحيب بين الناس، ولكن الطريقة الأشهر عالميًا هي المصافحة باليد، فهي أسلوب مفضل في جميع انحاء العالم وإن اختلفت أشكالها، والمصافحة الحقيقية الصادقة المعبرة هي أن يضع الإنسان راحة يده اليمنى على راحة يد من يصافحه مع الإقبال عليه بالوجه، تشير إحدى المقولات القديمة إلى ان كف الإنسان هو مخزن الأسرار، وأن السر موزع بين راحة اليد والأصابع، فراحة اليد تشير إلى حقيقة باطن الإنسان، أما الأصابع فتشير إلى ما يريد أن يظهره الإنسان للآخر عن نفسه.
وقد وضع الإسلام ضوابط شرعية للمصافحة، أهمها لا مصافحة بين الرجال والنساء الاتي لم يكن من محارمهم، بمعنى لا يصح لرجل أن يصافح امرأة غير محرم له، ولا يصح لامرأة أن تصافح رجلًا غير محرم لها، فعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمسّ امرأة لا تحل له)، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (والله ما مست يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يد امرأة قط إلا امرأة يملكها).