القرآن ملاذ الروح وفيه تستريح النفوس وتهدأ من أحوال الدنيا ورغباتها، فتدبر القرآن تعلو الهمم وتتطلع نحو حياة مشرقة جديدة، قال تعالى:(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (ص ـ29).وقد كان للسلف الصالح دور عظيم مع القرآن الكريم، فكانوا يتعاهدون القرآن الكريم علمًا، وتعلُّمًا، وتعليمًا، وكانت لهم في ذلك عناية ورعاية خاصة، ومما يدل على ذلك ما ورد عن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: إن كل مؤدب يحب أن يُؤتى أدبه، وإن أدب الله تبارك وتعالى القرآن. ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعيش مع القرآن حياة خاصة حيث كان شعار خلقه القرآن النور الساطع والمبين وتجل القرآن في سويداء قلبه وبالقرآن كانت حياته في الدنيا قرآناً يمشي على الأرض، واتخذ (صلى الله عليه وسلم) من القرآن نوراً وجلاً لحزنه ودليلاً لدعوته وراحة وسعادة في حياته، قال تعالى:(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى ـ 52). ودعا النبي (صلى الله عليه وسلم) الناس بالقرآن إلى القرآن بالعيش معه والاعتبار والتأمل والوقوف بالتدبر والخشوع عند آياته والتفكر في معاني القرآن والتبصر والتدبر عند حدوده قال تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران 190 ـ 191).وكانت صلاته خشوع وتدبر وتضرع لتحقيق العبودية المطلوبة في الصلاة ويعيش مع الصلاة بروح الإيمان بعيداً عن مشاغل الدنيا والتفكير بها ويبتعد عن الكسل في الصلاة لأنه يعيش روح الصلاة عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال:(صليت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها: يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ) (رواه مسلم).وقد ورد الكثير من الآيات تدعو إلى التدبر، قال تعالى:(أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) (المؤمنون ـ 68)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً، وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء 82 ـ 83)، قال تعالى:(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (محمد ـ 24).واعتنى السلف الصالح عظيم العناية والاهتمام بتدبر القرآن، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه:(لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقَل، قفوا عند عجائبه وحركوا به قلوبكم) وقال أيضاً:(كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهنَّ) (أخرجه الطبري).وقال ابن مسعود أيضاً:(من أراد العلم، فليثوِّر القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين)، ومعنى تثوير القرآن: تدبره والتنقير عن معانيه وكنوزه وعجائبه في كل مجال.كان ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ يقول:(ركعتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب). وقال الحسن البصري:(يا ابن آدم كيف يرق قلبك، وإنما همتك آخر السورة)، وكان الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ يقول:(إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً، قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلّوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه)، قال الإمام أبو حامد الغزالي: وليس معنى فهم القرآن حفظ تفسيره فإن في معاني القرآن متسعاً بالغاً ومجالاً رحباً لأرباب الفهم، وهذا مثال من أمثلة التدبر قال تعالى في آياته المشهودة:(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق 36 ـ 37). قال ابن القيم:الناس ثلاثة: رجلٌ قلبه ميت، فذلك الذي لا قلبَ له، فهذا ليست الآية ذكرى في حقه، والثاني: رجلٌ له قلب حيّ مستعد، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة، التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه وقلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضرًا، فهذا أيضًا لا تحصل له الذكرى، مع استعداده ووجود قلبه، والثالث: رجلٌ حيُّ القلب مستعد، تُليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهدُ القلب، مُلقي السَّمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوَّة والمشهودة، فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يُبصر، والثاني: بمنزلة البصير الطَّامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه، والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدَّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسُّطٍ من البُعد والقربِ، فهذا هو الذي يراه.وسوف يبقى القرآن حبل الله المتين الذي أنزله سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية جميعا مصدر عز وعلم وتفكر وتدبر، فالإقبال على القرآن بالتدبر كإقبال الضمان على الماء لأنه تحيا وتسمو وتزدهر به النفس وجعل عزوجل سبحانه وتعالى هذا الكنز العظيم الذي يمثل علاج و شفاءً لما في الصدور فإذا تليت آياته تخشع وتخضع القلوب له لأنه المنهل العظيم والنور المبين وقد فاض بالعديد من المشاهد والأحكام والقصص والعبر فهو نور على نور فنحيا ونعيش مع هذا المحراب المبارك الذي بقلب محب وعاشق للقرآن، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس ـ 57)، هذا هو القرآن التجارة الرابحة في الدنيا والآخرة يقول ابن القيم: فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر في معاني آياته.