خلق الله تعالى الإنسان حرّاً في تصرفاته وفي وجوده، فالحرية جزء من كينونته، سَلْبُهَا جريمة بشعة، وهذه من أعظم القيم المتعلقة بقيمة الإنسان الكبرى، وهي من كرامة الإنسان الذاتية:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
وحرية الإنسان من آثار العبودية لله تعالى، والتي بها يتحرر من عبادة مثله أو من هو دونه من المخلوقات، فمن أعظم دلالات الحرية أن يتعالى الإنسان عن شهواته، والتي لطالما استعبدت الإنسان لتضعه في كلّ ما هو خبث سيء.
فالإنسان قد يهوى شرب الخمور، وقذف المحصنات، وأكل المال الحرام، وقطيعة الأرحام، وغيرها من الآثام، والتي يسولها للإنسان الشيطان، فتنقاد له النفس الأمارة، ويحثه عليها قرناء السوء، فيكون عبداً للشيطان والهوى والقرين، فهذه عبودية المخلوق، وإن تظاهر بذلك أنه حر، في الحقيقة هو عبد لغيره من الموجودات.
ولقد قال الله تعالى عن عبودية الشيطان:(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا)، وعن عبودية الهوى:(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، وعن عبودية القرين:(وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ).
فتوحيد الإنسان لله سبحانه وتعالى، وإخلاصه الكامل لله ـ جلّ وعلا، وعدم الإشراك به بشرك معنوي أو مادي، هذه أعظم حرية يتمتع بها الإنسان، فيعلو بروحه في سماء التوحيد، ويتعالى عن عبودية الوثن بأنواعه، قال تعالى:(أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ).
بجانب عبادته الكاملة لله تعالى، والتنافس على طاعته، والوقوف عند حدوده؛ من أعظم معاني الحرية، لأنه يرقى في سماء العبودية والطاعة المطلقة لواجب الوجود سبحانه.
ولقد أعطى الله تعالى الإنسان مطلق الحرية في الإيمان به، حيث قال:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، بل حرّم الله الإلهُ الحقُ الإساءةَ إلى عبادات الآخرين وآلهتهم، فضلا عن شعائرهم وطقوسهم، قال سبحانه:(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فإذا كان هذا مع قوم يعبدون ويؤلهون غير الله، أو يشركون به آلهة أخرى، أو حرّفوا شريعته كاليهود والنصارى، ومع هذا يجب احترام رموزهم وشعائرهم؛ فإذا كان هذا مع هؤلاء فكيف بالمسلمين من مختلف مذاهبهم ومدارسهم الفكرية، وهم يؤمنون برب واحد، ونبيهم وكتابهم وقبلتهم واحدة، فلم هذا السب واللعن، ولم هذه القطيعة والفتنة، قال تعالى:(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).
فلكل مسلم حريته في عبادته وتوجهه، واختيار المدرسة التي وُلِدَ فيها، أو اقتنع بها، أو الرأي الذي يراه أقربَ صواباً، وأهدى سبيلاً، ولا يجوز لأحد قمعه أو التضييق عليه، نعم يمكن فتح باب الحوار، والجدال بالتي هي أحسن، لكن أن يقمع ويهجر ويؤذى فهذا بعيد عن المنهج الإلهي، والذي لا إكراه فيه لأحد.
وكما يجب أن يحترم المسلمون ما عند الآخرين من قداسة في الرموز والطقوس يجب أيضاً على الآخرين أن يحترموا ما يدين به المسلمون، فلا يُسبُّ الله ولا رسوله، ولا يُساء إلى القرآن أو الكعبة، ولا يُسخر من شعائر الله تعالى، ولا يُستهزأ بالدين وأهله مطلقا لا في شعر ولا نثر ولا تمثيل ولا غيره، فهذه من أكبر معاني الحرية، فأنت حر في نفسك وعبادتك وتوجهك، وفي المقابل الآخرون أحرار أيضاً في عبادتهم وتوجهاتهم.
وما ينادى به اليوم من الشراكة المدنية، والسيادة للقانون، هذا الذي وضع أسسه القرآن الكريم، بل وظهر عند رسوله (صلى الله عليه وسلم) وقد رضع من لبان القرآن؛ حيث ظهر منه جليا في ميثاق المدينة عندما هاجر إليها، ليكون قانونا جامعا لجميع أطياف المدينة، وهذا ما ظهر أيضا عند الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، عندما فتح إيليا، فكان ميثاقاً للأديان الثلاثة الكبار، والأمر نفسه عندما فتح الإمام الصلت بن مالك الخروصي أرض سوقطرة فقد وضع ميثاقا مدنيا للمسلمين والنصارى من جانب، والإباضية والشافعية من جانب آخر.
فدولة القانون، والتي تكون السيادة فيها للقانون، والناس أحرار وفق القانون المختار من جميع أطياف المجتمع، والذي يحمي حريات الناس؛ لم يكن هذا وليد الثقافة الغربية؛ بل كان تأصيلا إلهيا في القرآن الكريم، طبّق مرارا في التأريخ الإسلامي.
وما حدث من انحراف عند بعض المدارس الإسلامية، ومحاولة فرض الرأي الواحد، والمدرسة الواحدة، وتصور التعددية أمرا سلبيا؛ إنّ هذا ناشئ من غزو الروايات السياسية الموضوعة من قبل الساسة، أو من يؤمن بمدرسة معينة، فخيمت على النص القرآني، وغيبت التطبيق الرائع من بعض المسلمين، بل من الرسول الكريم نفسه.
ونحن اليوم أشدّ حاجة إلى هذا التطبيق الرفيع، فمع تعددية العولمة، وسيادة الكوكبة، وفي ظل الإعلام، والتعايش السلمي، وفي محاولة الشعوب للعودة إلى السنة الإلهية الأولى، سنة الشورى، لتكون ميزانا للحكم، يحكم به من اختير من قبل الشعوب وفق القانون العادل، والذي يعطي للناس حرياتهم التي خلقهم الله عليها.
ونجد في القرآن نفسه يعطي للناس الحرية الكاملة في اختيار المنهج الذي يرونه مناسبا، وفق الاختيار الفردي، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، يقول تعالى:(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).
وعليه يكون الجزاء الأخروي وفق هذا القانون الرباني، فالحرية مبدأ إنساني يترتب عليه الكرامة الإنسانية في الدنيا، والجزاء الأخروي في الآخرة، قال تعالى:(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا)، وقال سبحانه:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ).

بدر بن سالم العبري