في البحث عن الجينومات الضائعة
مسقط ـ الوطن:
صدر عن دار عرب ٢٠١٨، ترجمة جديدة للكاتبين والمترجمين العمانيين حسين العبري وحمد سنان الغيثي، لكتاب "إنسان النياندرتال: في البحث عن الجينومات الضائعة" لمؤلفه سفانته بيبو، فمن أين أتينا؟ وكيف جئنا؟ أسئلة واجهت البشر منذ فجر تاريخهم، وتعددت إجاباتهم بتعدد تواريخهم وثقافاتهم.غير أننا نقف اليوم على أبواب حقبة يكتب فيها البشر تاريخهم ويسطّرون أجوبتهم كما لم يفعلوا من قبل. وهذا ما يفعله كتاب إنسان النياندرتال: في البحث عن الجينومات المفقودة، إذ يسرد كيف أنّ عظاماً عتيقة منبوشة وتقنيّات بيولوجية مبتكرة قد أخبرتنا عن أصلنا، وعن الطرق والمنعطفات التي سلكها نوعنا البشري ليصل إلى ما نحن عليه.
يقول المترجمان العبري والغيثي: يسرد الكتاب الذي نضعه بين يَدَيْ القارئ الرحلة العلمية المؤدية لاكتشاف جينوم إنسان النياندِرتال، وهو شكل من أشكال الإنسان الذي سبق ظهور البشر المعاصرين المعروفين، وانقرض قبل حوالي ٣٠ ألف سنة.ومؤلف الكتاب هو رائد الفريق العلمي الذي أتمّ هذا العمل الضخم والرائع، عالم الأناسة التطورية سفانته بيبو الذي يشغل منصب مدير قسم الجينات في معهد ماكس بلانك لعلم الأناسة التطورية في مدينة لايبتزج بألمانيا، وقد عدته مجلة تايم في عام 2009 واحداً من الأشخاص المئة الأكبر تأثيراً في العالم.وكتابه هذا حديث النشر، فقد نشر في فبراير عام 2014.
ويشير المترجمان حسين العبري وحمد الغيثي إلى أن الكتاب جاء على شكل السيرة الذاتية التي تبدأ من شغف المؤلف منذ طفولته بعلم المصريات، انتهاء بريادته تقنيات قراءة الشفرة الوراثية لكائنات منقرضة توّجها بقراءة جينوم إنسان النياندِرتال في عام 2010.وخلال هذه الرحلة العلمية الممتدة على مدار ثلاثين عاماً تتضح فوائد جمة.
أولاً، يرسم الكتاب العملية التي يتقدم بها العلم، ومراحل تكوّن الاكتشاف العلمي. نرى كيف أن شغف العالِم بموضوع ما يقوده للبحث عن المعرفة المجهولة، ثم للبحث عن الموارد اللازمة، ثم تجنيد علماء آخرين ذوي مهارات متنوعة، ثم ابتكار تقنيات جديدة تُيسِّر الحصول على أجوبة على الأسئلة المطروحة. لذلك فالكتاب ليس كتاباً نظرياً يشرح النتيجة، بل هو كتاب مرشد يشرح طريقة الوصول. وهكذا فإنه لا يشكل أهمية للقارئ النهم للمعرفة فحسب، بل ويهب نظرة عامة على المؤسسات العلمية وطرق تنظيمها وتفعيلها وتمويلها للوصول إلى النتائج المرجوة من العلم.
ثانياً، يوفر الكتاب تأريخاً وشرحاً مهماً مبسطاً لتطور أهم التقنيات في علم الأحياء الجزيئية مثل تقنيتيْ تفاعل البلمرة المتسلسل (التبم) وسَلْسَلة الدنا. وبذلك يُصوِّر الكاتب كيف يقوم العلماء بتجميع تقنيات مألوفة لابتكار تقنيات جديدة، ويرسمُ ماهية الأسئلة التي تلهب هذا المجهود المستمر.
ثالثاً، في الكتاب تلك الدفعة الطموحة والشغف العلمي والمحاولة الدؤوب التي يحتاجها عالمنا العربي لبدء الحركة الجادة باتجاه المستقبل، فهو يشمل فيما يشمله الحياة العلمية للكاتب نفسه وكيف تضافرت العوامل لتمكنه أخيراً مع مجموعته البحثية من الوصول إلى إنجازات رائدة عديدة.
أمّا نتائج مشروع جينوم إنسان النياندِرتال فيشير المترجمان الغيثي والعبري إنها منحت العلماء معرفة بالتغيّرات الجينية التي جعلت من البشر بشراً، أيّ تلك التي جعلتهم نوعاً مختلفاً عن النياندِرتال، وعن بقية الرئيسيات كالشمبانزي، ليطوروا قدرات غير مسبوقة مثل اللغة والثقافة والحضارة. ويمهّد هذا العمل الطريق لمعرفة التغيرات الجينية التي لها علاقة بكيف يفكر البشر المعاصرون وكيف يتصرفون.
هكذا يمنحنا الكتاب قدرة أكبر على فهم التاريخ البشري التطوري، متضمناً حركة البشر المعاصرين والأشكال المنقرضة، ويعيد بناء أجزاءٍ مركزية في قصة التطور الكبرى التي عاشها كوكب الأرض.إنها تلك القصة التي لا تزال مستمرة بسبب شغف الإنسان في البحث والتنقيب وسعة الأفق وقوة الآلة التي يستخدمها، آلة البحث العلمي التي لا تشبع.
وكمترجمَيْن، فقد سعينا جهدنا في الالتزام بالأصل، وفي دقة العبارة ووضوحها وسلاسة تدفقها. وقمنا بمراجعة الترجمة مرات عديدة بالتناوب بيننا حتى نتيقّن من التزامنا بهذه المعايير. واتبعنا في ترجمتنا هذه خطوطاً تنسيقية عامة مثل كتابة أسماء الدوريات العلمية والأنواع البيولوجية بخطٍ عريض مائل، وإثبات أسماء الأنواع والمصطلحات باللغة الإنجليزية بين قوسين عند ورودها للمرة الأولى، ووضعناها جميعاً إضافة إلى أسماء الأعلام في ملاحق في نهاية الكتاب مقابل أصلها الإنجليزي. وقمنا أيضاً بإضافة خمسة ملاحق شارحة لأهم التقنيات التي أشار إليها الكاتب بغية تبسيطها وتمثيلها للقارئ.
وأخيراً يقول المترجمان العبري والغيثي: نستذكر أنه عندما وردت إلى الثقافة العربية في نهايات القرن التاسع عشر أنباء اكتشاف بقايا شبه بشرية، دار جدل كبير حول هوية تلك البقايا، وما إن كانت لبشر مثلنا أو لبشر مختلفين، وماذا يعني ذلك. ومذ حينها والمسألة مجال للتأويلات والاختلافات؛ حيث لم يتناول كتابٌ في العربية مسألة أصول البشر علمياً. وهذه الترجمة هي جهدٌ لسدّ هذا الفراغ، إذ نقرأ كيف تطوّر نوعنا البشري، وكيف تفاعل مع الأنواع البشرية الأخرى قبل انقراضها. سنقرأ في هذا الكتاب كيف غيّرت الاكتشافات العلمية من نظرة العلم لأصل البشر، وسنرى أنّ "الاعتقادات الراسخة"حول نقاء الأعراق البشرية غير صحيحة بتاتاً، وأننا إذ نخطّ تاريخنا من جديد، فإننا نكتب مستقبل نوعنا البشري.