الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَبَانَ لِلنَّاسِ مَعَالِمَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَجَعَلَ لَهُمْ " رسلا مبشرين ومنذرين " فَأَرْسَلَ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا " رحمة للعالمين " وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيـكَ لَهُ، " أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ " ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وُلِدَ النُّورُ بِمَوْلِدِهِ، وَبُعِثَتِ الإِنْسَانِيَّةُ مِنْ ضَيَاعِهَا بِمَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ، وَدَعَا بِدَعْوَتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) " الحديد وَاعْـلَموا -إِخْوَةَ الإِيمَانِ- أَنَّهُ تَمُرُّ عَلَى الْعَالَمِ الْمُسْـلِمِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ ذِكْرَى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهَا لَذِكْرَى وَاللهِ عَظِيمَةٌ، فَمَوْلِدُهُ – بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - كَانَ مَوْلِدًا عَظِيمًا، فَلَقَدْ أَحْيَا اللهُ بِهَذَا الْوَلِيدِ الْمُبَارَكِ الْبَشَرِيَّةَ بَعْدَ امْـتِهَانِهَا، وَانْتَشَلَ بِهِ الإِنْسَانِيَّةَ مِنَ انْحِطَاطِهَا. وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَالإِنْسَانُ يَصْرَعُهُ ظُلْمُ الإِنْسَانِ، يَعْدُو الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ مُتَسَلِّطًا، وَيَعْلُو الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ مُسْـتَعْبِدًا، وُئِدَتِ الإِنْسَانِيَّةُ فِي نُفُوسِ أَبْـنَائِهَا، وَهُدَّتْ مَنْظُومَةُ الأَخْلاقِ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَأَرَادَ اللهُ بِالإِنْسانِيَّةِ رَحْمَةً بِمَوْلِدِ هَذَا الرَّسُولِ الأَمِينِ صلى الله عليه وسلم " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء " ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ مُبَيِّنًا مِنَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ : " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) ال عمران " ، إِنَّ مَوْلِدَ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم لَيَحْوِي دُرُوسًا جَلِيلَةً، حُقَّ لَهَا أَنْ تُدْرَسَ وَتُدَرَّسَ، وَحُقَّ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَمُجْـتَمَعًا أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مُرَبِّيًا ومُهَذِّبًا، وَلِمُسْـتَقْبَلِهِمْ مُوَجِّهًا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْمَوْلِدَ النَّبَوِيَّ يُعْطِينَا دَرْسًا فِي الأَمَلِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ، فَظَلامُ الْجَهْـلِ وَالْجَهالَةِ، وَالانْحِلالِ وَالضَّلالَةِ؛ مَهْمَا اشْتَدَّ فَفَجْرٌ مِنَ اللهِ آتٍ، وَمَهْما ضاقَتْ بِالأُمَّةِ الْكُرُوبُ وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهَا الْخُطُوبُ؛ فَالْفَتْحُ مِنْهَا قَرِيبٌ، وَلَهَا مِنَ النَّصْرِ نَصِيبٌ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَى الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ تُعْطِينَا دَرْسًا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، وَرُسُوخِ الْمَبْدَأِ؛ فَهِيَ تُذَكِّرُنَا بِسَيْرِ دَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ بَدَأَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم بِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَحِيدًا يَوْمَ أَنْ بَعَثَهُ اللهُ فِي مُجْـتَمَعٍ يَعُجُّ بِالْمُتَنَاقِضَاتِ، وَتَمُوجُ فِيهِ الْفِتَنُ، فَكَانَ ثَابِتًا عَلَى مَبَادِئِ الدِّينِ، صَادِحًا بِالْحَقِّ رَغْمَ إِغْرَاءِ الْجَاهِلِينَ، شَامِخًا رَغْمَ تَهْدِيدِ الْمُجْرِمِينَ، لَقَدْ خَرَجَ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ خَائِبَ الرَّجَاءِ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُ مُتَحَدِّثًا بِلِسَانِ قَوْمِهِ عَارِضًا عَلَيهِ الدُّنْيَا وَوَاضِعًا عِنْدَ قَدَمَيْهِ الْمُغْرِيَاتِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ، فَلَمَّا رَأَى مِنْ ثَبَاتِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ وَسَمِعَ مِنْ وَحْيِ الْكِتَابِ أَدْرَكَ فَشَلَ مُهِمَّـتِهِ، وَعَلِمَ الْحَقَّ لَكِنَّهُ جَحَدَهُ، فَكَانَ بِعِنَادِهِ مَهِينًا، وَمُعْـتَدِيًا أَثِيمًا. يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوَجِّهًا رَسُولَهُ الْكَرِيمَ إِلَى الثَّبَاتِ لِعِظَمِ الأَمَانَةِ، مَعَ قُوَّةِ الْمُعَارَضَةِ، وَشِدَّةِ الْمُعَانَاةِ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) " سورة الكافرون
وَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الثَّبَاتِ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ قَبْـلَهُ، فَكُلُّهُمْ وَاجَهُوا الْمِحَنَ وَالشَّدَائِدَ، فَثَبَتُوا وَصَبَرُوا، فَكَانَ اللهُ مَعَهُمْ حافِظًا وَنَاصِرًا، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: " وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) الأنعام ". وَعَلَى نَهْجِ الْمُرْسَلِينَ سَارَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، فَكَانُوا ثَابِتِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، لا شَكَّ عِنْدَهُمْ وَلا امتِرَاءَ، رَاسِخِينَ بِمَبَادِئِهِمْ، لا تُنَازُلَ وَلا تَخَاذُلَ، فَجِبَالُ إِيمَانِهِمْ لا تَهُزُّهَا الْمُغْرِيَاتُ، وَأَرْضُ ثَبَاتِهِمْ لا تُزَلْزِلُهَا الشَّدَائِدُ وَالْوَيْلاتُ.
أَيُّهَا الْمُسْـلِمُونَ:
نَتَعَلَّمُ مِنْ ذِكْرَى مَوْلِدِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم دَرْسًا عَظِيمًا فَحْوَاهُ أَنَّ الإِيمَانَ أَهَمُّ سَبَبٍ لِلنَّصْرِ وَالتَّمْـكِينِ، لَقَدْ كَانَ مَوْلِدُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فِي حَقِيقَتِهِ مَوْلِدًا لأُمَّةٍ جَدِيدَةٍ، أُمَّةٍ خَرَجَتْ مِنَ الْعَدَمِ فَحَازَتِ الْخَيْرِيَّةَ بَيْنَ الأُمَمِ. إِنَّ النَّاظِرَ إِلَى حَالِ الْعَرَبِ قَبْـلَ وِلاَدَةِ أُمَّةِ الإِسْلامِ فِيهِمْ لَيَرَى أَنَّ بِنَاءَ حَضَارَةٍ بِهِمْ ضَرْبٌ مِنَ الْخَيَالِ، فَأَرْضُهُمْ قَاحِلَةٌ، وَقَبَائِلُهُمْ مُتَنَاحِرَةٌ، وَصِلاتُهُمْ مُمَزَّقَةٌ، وَضَلالاتُهُمْ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ بَزَغَ فِيهِمْ نُورُ الإِيمَانِ وَارْتَفَعَتْ فِيهِمْ رَايَةُ التَّوْحِيدِ، كَوَّنُوا فِي سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ دَولَةً رَاسِخَةَ الأَرْكَانِ، وَبَنَوْا بَعْدَ ذَلِكَ حَضَارَةً مَتِينَةَ الْبُنْيَانِ، فَأَيَّ أَسْبَابِ الْحَضَارَةِ حَازُوا؟ وَبِأَيِّ عَوَامِلِ الرُّقِيِّ فَازُوا، لِيَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ النَّصْرُ وَالتَّمْـكِينُ؟ إِنَّهُ الإِيمَانُ الصَّادِقُ – عِبَادَ اللهِ -، الإِيمَانُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادِهِ، إيمَانٌ بِهِ رَاسِخٌ، وَوُقُوفٌ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْـيِهِ، إِنَّهُ الإِيمَانُ الَّذِي يُمَزِّقُ حُجُبَ الضَّلالاتِ، وَيُقَوِّي فِي الْمُجْـتَمَعِ الصِّلاتِ، الإِيمَانُ الَّذِي يُنَقِّي الْقُلُوبَ مِنَ الضَّغَائِنِ، وَيَدْفَعُ الْهِمَمَ إِلى الْبِنَاءِ، وَيُحَرِّكُ فِي الْعُقُولِ الْمَلَكَاتِ، وَيُفَجِّرُ فِي النُّفُوسِ الطَّاقَاتِ، فَهُوَ عَامِلٌ أَسَاسِيٌّ تَتَحَرَّكُ مَعَهُ وَبِهِ الْعَوَامِلُ اللازِمَةُ لِمُجْـتَمَعٍ صَالِحٍ، وَنَهْضَةٍ رَاقِيَةٍ، وَحَضَارَةٍ قَوِيَّةٍ. لَقَدْ وَعَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعْدًا صَادِقًا أَنَّ مَعَ الإِيمَانِ الْحَقِّ نَصْرًا وَفَتْحًا وَتَمْـكِينًا، يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) النور " ، وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج "، فَالنَّصْرُ حَلِيفُ الإِيمَانِ، وَالْعِزَّةُ قَرينةٌ لَهُ. وَاعْـلَمُوا –رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّهُ بَعْدَ الإِيمَانِ الصَّادِقِ يَأْتِي الاتِّحَادُ وَالإِخَاءُ عُنْصُرًا أَسَاسِيًّا فِي قِيَامِ الْمُجْـتَمَعَاتِ وَبِنَاءِ الأُمَمِ، فَالأُمَمُ لا تَقُومُ وَالْحَضَارَاتُ لا تُؤَسَّسُ إِلاَّ بِتَمَاسُكِ أَفْرَادِهَا وَاتِّحَادِ أَبْـنَائِهَا، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الرَّعِيلِ الأَوَّلِ فِي أَوَّلِ مُجْـتَمَعٍ مُسْـلِمٍ يَضُمُّهُمْ. يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ: " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (72) الانفال " ، إِنَّ الاتِّحَادَ وَالْوَلاءَ صِفَةٌ مُلازِمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَهْمَا اخْـتَلَفَ زَمَانُهُمْ، وَتَغَيَّرَ مَكَانُهُمْ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاصِفًا لَهُمْ: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ـ التوبة 71 " ، وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ـ الحجرات 10 "، فَقَوُّوا – أَيُّهَا الْكِرَامُ - بِإِيمَانِكُمْ وَحْدَتَكُمْ، وَعَزِّزُوا فِي اللهِ إِخَاءَكُمْ، اجْعَلُوا الإِيمَانَ مُنْطَلَقَكُمْ إِلى الرِّفْعَةِ وَالْعِزَّةِ، وَالْوَحْدَةَ سَبِيلَكُمْ إِلى الْبِنَاءِ وَالتَّمْـكِينِ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْـبِهِ وَمَنْ وَالاهُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاعْـلَمُوا – عِبَادَ اللهِ - أَنَّ النُّفُوسَ قَدْ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ مِنْ أَسْدَى إِلَيْها مَعْرُوفًا، كَمَا طُبِعَتْ عَلَى حُبِّ مَنِ اتَّصَفَ بِالشَّمَائِلِ الْحَمِيدَةِ وَالأَخْلاقِ النَّبِيلَةِ، وَهَذَانِ السَّبَبَانِ الدَّافِعَانِ إِلَى الْمَحَبَّةِ قَدْ وُجِدَا فِي أَكْمَلِ صُورَةٍ فِي الْحَبِيبِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم ، فَقَدْ أَنْفَقَ عُمُرَهُ كُلَّهُ دَاعِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَاجَهَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ الصِّعَابَ، وَتَكَبَّدَ لأَجْـلِهِ الْمُلِمَّاتِ وَالشَّدَائِدَ، فَكَانَتْ سيرَتُهُ بِأَكْمَلِهَا تَضْحِيَةً لأَجْـلِ تَبْـليغِ الرِّسَالَةِ وَتَحْـقِيقِ الْهِدَايَةِ، وَإِنْقَاذِ النَّاسِ مِنَ الظُّلْمِ وَالظُّلُمَاتِ، وَمِنَ الغَوَايَةِ وَالضَّلالاتِ، فَكَانَ نِعْمَةً مِنَ اللهِ لِلْبَشَرِيَّةِ قَاطِبَةً، ورَحْمَةً مِنْهُ لِلْعَالَمينَ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ مُمْـتَنًّا بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:" لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) التوبة " وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُنَا الْكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم مَعَ ذَلِكَ مُتَّصِفًا بِالْخُلُقِ الْعَظِيمِ، يَكْفِيهِ فِي ذَلِكَ وَصْفُ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ قَائِلاً، وَمُؤَكِّدًا: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ كَفًّا، وَأَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَوْفَاهُمْ ذِمَّةً، وَأَلْـيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عَشِيرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، فَكَانَ حُبُّهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ حُبًّا عَظِيمًا، وَمَكَانَتُهُ فِي نُفُوسِهِمْ لا تُدَانِيهَا مَكَانَةُ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ. إِنَّ مَحَبَّـتَهُ صلى الله عليه وسلم فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ – عِبَادَ اللهِ - لَيْسَتْ مَحَبَّةً عَاطِفِيَّةً مُجَرَّدَةً، تَدْفَعُهَا فَوْرَةٌ، وَتُخْمِدُهَا نَزْوَةٌ، بَلْ مَحَبَّـتُهُ صلى الله عليه وسلم عَقِيدَةٌ وَدِينٌ، وَتَأَسٍّ وَاتِّبَاعٌ، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم مُوَجِّهًا: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدَهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))، وَيَقُولُ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
فَلْنُتَرْجِمْ – أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ – حُبَّـنَا لِرَسُولِنَا الْكَرِيمِ اتِّبَاعًا وَعَمَلاً، فَلا يَصْدُقُ حُبُّـنَا لَهُ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ بِذَلِكَ، وَاجْـعَلُوا مِنْ سِيرَتِهِ مَنْهَجًا لَكُمْ وَقُدْوَةً، عَلِّمُوهَا أَوْلادَكُمْ، وَعَطِّرُوا بِهَا مَجَالِسَكُمْ، عَسَى أَنْ نَكُونَ بِذَلِكَ مِمَّنْ أَحَبَّ فَصَدَقَ، وَتَأَسَّى فَفَازَ " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا "
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ المُرْسَلِينَ، وَقَائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيمًا : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56 ) الأحزاب
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنْ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُومًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُومًا، وَلا تَدَعْ فِينَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُومًا.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ بِكَ نَستَجِيرُ، وَبِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثُ أَلاَّ تَكِلَنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ يَا مُصْلِحَ شَأْنِ الصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ، وَأَيِّدْهُ بِنُورِ حِكْمَتِكَ، وَسَدِّدْهُ بِتَوْفِيقِكَ، وَاحْفَظْهُ بِعَيْنِ رِعَايَتِكَ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي ثِمَارِنَا وَزُرُوعِنَا وكُلِّ أَرْزَاقِنَا يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ.رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ،المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) " النحل