مـن ينابيـع القـرآن

الحمد الله والصلاة والسـلام عـلى رسـول الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وبـعـد :
فـيقـول الله تعالى في كـتابه العـزيـز: {إن هـذا القـرآن يهـدي للتي هي أقـوم ويبشـر الـمؤمنين الـذين يـعـمـلـون الصالحات أن لهـم أجـرا كـبيرا، وأن الـذين لا يـؤمـنـون بالآخـرة اعــتـدنا لهـم عـذابا ألـيما }سـورة الإسـراء 9 ـ10
عـن عائشة أم المؤمـنين رضي الله عـنها قالـت : قال رسـول الله صلى الله عـليه وسـلم : ( لا تحـل الصـدقـة لـغـني ، ولا لـذي مـرة سـوي ، ولا لمـتأ ثـل مالا ) 0 أخـرجه الإمام الربيع بن حـبيب حـديث رقـم : ( 356 جـ 1 ، ص 144) 0
أي لاتحـل الصـدقة ( الـزكاة ) لـمـن كان سـلـيـم الحـواس صـحـيـح الـبـدن قـويا عـلى الكـسـب والعـمـل ، وإنـما يـقـدم عـلـيه الـفـقـير والمسـكـين ، والعاجـز المصاب بمـرض يـعـوقـه عـن العـمـل والسـعي مـن أجـل كسـب قـوته وقـوت عـياله ، أوعـن السـعي الـكامل الـذي لا يكـفي مـؤنـتـه ومـؤنـة عـياله 0
فـمـن كان ذا مـرة سـويا لا يعـطى مـن الـزكاة مـن جـهـة الـفـقـر والاحـتـيـاج ، وإنـما يـعـطى إذا كان مـن جـهة أخـرى ، كأن يـكـون غـريـما بسـبـب ديـن اسـتـدا نه لـقـوت عـياله وعـجـز عـن سـداده ، فحـيـنـئـذ يعـطى له مـن الـزكاة بمـا يــقـضي بـه دينه بشـرط أن لا يـكـون قـد أنـفـق دينه في سـرف أو معـصية 0
وفي رواية الـترمـذي للحـديث اســتثـناء ذي الفـقـر المـدقـع ولـو كان ذا مـرة سـويا بـلفـظ : ( إن المسألة لا تحـل لـغـني ولا لـذي مـرة سـوي، إلا لـذي فـقـر مـدقـع ، أو غـرم مـفـظـع ) 0 كـتاب الـزكاة حـديث رقـم : ( 653، جـ 3 ص 43) 0
وقال قـطـب الأئـمة الشـيخ محمد بن يـوسـف اطـفـيش رحـمه الله ، تعـلـيـقـا عـلى قـوله : ( ولا لـذي مـرة سـوي ) ، يـعـني إلا إن كان ذو المـرة السـوي مشـغـولا بأمـر مـن أمـور الإسـلام كالعـلـم أو لا يجـد حـرفـة يـحـترفـها ، أو لـم تكـفـه حـرفـته التي يحـترفـها لما لا بـد مـنه كـمسكـن ومـركـب وملـبس ( شـرح كـتاب الـنـيـل جـ 3 ، ص 304 )0
فالمـرة: هي الـقـوة البـدنـيـة ، ولـكـنها لما جـمعـت في الآية مـع شـديـد الـقـوى تـبـين أن المـراد بها وصـف آخـر غــير قـوة الـبـدن ، لأن قـوة الـبـدن ذكـرت في قـوله تعالى :{شـديـد القـوى} ، ويبـدو أن المـرة هي بـكمال العـقـل ، لـكـون الله تعالى وصـف جـبريـل عـليه السـلام في قـوله : { نـزل به الـروح الأمـين عـلى قـلبـك لـتكـون مـن المنـذرين بلسان عـربي مـبين } سـورة الشـعـراء 193/195، والـروح الأمـين هـو جـبريـل عـلـيـه السـلام ، وكمال الأمانة يـوصف بها مـن كان حـصـيـفـا ذا مـرة ، كما يـراد كـذلك بـذي مـرة : اعـتـدال الخـلـق وجـمال الصـورة ، وكل هـذه الأوصاف جـمـعـها الله تعالى في جـبريـل عـلـيـه السلام في قـوله تعال : { شـديـد القـوى ذو مـرة فاسـتـوى}0
أما شـدة جـبريـل عـليه السلام فـقـوته مـعـروفة ومشهـورة ، في كـتـب الـتـاريـــخ والسـير، لأنه المـكلـف بـتبـلـيـغ الـرسالات مـن الله تعالى إلى الـرسـل مـن البـشـر، والمكـلـف كـذلك بالانـتـقـام مـن أعـداء الله تعالى ، بما يـرسـل عـلـيـهـم مـن أنـواع العـذاب ، فـكل الـذيـن أهـلـكهـم الله تعالى كان هـلاكهـم عـلى يـد جـبريـل عـلـيـه السلام ، فـهـو الـذي اقـتـلـع مـدائـن قـوم لـوط الخـمـس ، ورفـعهـا عـلى طـرف ريشـة مـن جـناحه إلى السـماء ثـم قـلـبـها كـما قال الله تعالى : { فـلـما جـاء أمـرنا جـعـلـنا عـا لـيـهـا سـافـلها وأمـطــرنا عـلـيـهـا حجـارة مـن سـجـيـل منضـود مسـومـة عـنـد ربـك ، وما هي مـن الظـالمين ببـعـيـد } سـورة هــود 82/83 0
وهـو الـذي صـاح بـقـوم صالح ، صـيحـة واحـدة فـإذا هـم خـامـدون ، وفي ديارهـم جاثـمـون ، وهـذه لـوحـدها تـبـيـن لـنا شـدة وقـوة جـبريـل عـلـيه السلام ، لـكـونه المـكلـف بالـعــذاب والهـلاك ، ولـذلك عـاداه الـيهـود، يـقـول الله تعالى : { قـل مـن كان عـدوا لجـبريـل فإنه نـزله عـلى قــلبـك بإذن الله مـصـدقا لما بـين يـديه وهـدى وبـشـرى للـمـؤمـنـين مـن كان عـدوا لله ومـلائكـته ورسـله وجـبريـل ومـيكال ، فـإن الله عـدو للـكافــرين }سـورة البـقـرة 97/ 9.
لـقـد نـص الله تعالى في الـقـرآن الكـريـم عـلى أن الـيـهــود عـادوا جـبريـل عـلـيـه السـلام ، وكـذلك ورد أن الـيـهـود سـألـوا النبي محمـدا صلى الله عـلـيه وسـلم عـمـن يأتـيه بالـوحي مـن المـلائـكة ، فـقال لهـم : يأتـيني بالـوحي جـبريـل عـلـيـه السـلام ، فـقـالـوا له ذلك عـدونا ، ولهـذه العـداوة أسـباب مـنها :
قـولهـم إن خـراب بيـت المـقـدس كان عـلى يـد جـبريـل بإذن الله ، وهـو الخـراب الـذي أشـار إلـيـه الله تعالى في قـوله : { وقـضـينـا إلى بـني إسـرائـيـل في الكـتاب لـتـفـسـدن في الأرض مـرتـين ولـتـعــلـن عـلوا كـبيرا ، فإذا جـاء وعــد أولاهـما بـعـثـنا عـليـكـم عـبـادا لنا أولي بأس شـديـد فـجاسـوا خـلال الـديار وكان وعـدا مـفـعـولا } سـور الإسـراء 4/5 0
وقـولهـم : إن جـبريـل أخـطـأ في نـقـل الـرسالة ، فـبـدل أن يـذهـب بها إلى بني إسـرائيـل ذهـب بها إلى محمـد بن عـبـد الله وهـو مـن الـعـرب ، وهـذا مـن كـذبـهـم وبـهـتانـهـم لـعـنهـم الله ، هـذا الـذي جـعـلهـم يـعـادون جـبريـل عـلـيـه السلام ، حـتى قالـوا للنبي صلى الله عـلـيـه وسـلم ، لـو جـاءتـك الـرسالة عـلى يـد مـيـكائـيـل عـلـيه السلام لآمـنا أما وقـد جـاءتـك عـلى يـد جـبريـل فـلـن نـؤمـن 0
عـن ابن عـباس رضي الله عـنهـما قال : أقـبـلـت الـيـهــود إلى الـنـبي صلى الله عـلـيـه وسـلم ، فـقالـوا : يا أبا الـقـاسـم نـسألك عـن أشـياء إن أجـبتـنا عـليها اتبـعـناك وصـدقـناك وآمـنا بـك ، قال : فأخـذ عـلـيـهـم ما أخـذ إسـرائـيـل عـلى نـفـسه ، قالـوا : الله عـلى ما نـقـول وكـيـل ، قالـوا : اخـبرنا مـن الـذي يأتـيـك مـن المـلائكـة ، فإنه ليـس مـن نـبي إلا يأتيه مـلـك مـن المـلائكة بالـرسـالة والـوحي ، فـمـن صاحـبـك ، فإنما بقـيـت هـذه ؟ قال هـو : ( جـبريـل عـلـيـه السـلام ) ، قالـوا : ذلك الـذي يـنـزل بالحـرب والـقـتال ، ذلك عـدونا ، لـو قـلـت : مـيكائـيـل الـذي يـنـزل بالـقـطـر تابـعـناك ، أخـرجه الطـبراني المعجـم الكـبير حـديث رقـم : ( 12429 جـ 12 ، ص 45 ) 0
فأنـزل الله عـز وجـل : { قـل مـن كان عـدوا لجـبريـل فإنه نـزله عـلى قـلـبـك بإذن الله مـصـدقا لما بـين يـديـه وهـدى وبشـرى للـمـؤمنـيـن } سـورة البـقـرة 97 0
قال الله تعالى:{ فاسـتـوى وهـو بالأفــق الأعـلى ثـم دنا فـتـدلى فـكان قـاب قـوسـين أو أدنى } سـورة النجـم 7/9، تفـسـير الـكلمات : لـقـد تـقـدم صـورة عـامة لهـذه الأوصاف { فاسـتوى } اسـتـوى : اسـتـقـام عـلى الهـيئة الحـقـيـقـية 0{ بالأفـق } ، الأفـق : حـيـث يـرى الإنسان السماء وكأنها تـلامس الأرض ، إما عـلى جـبـل أو عـلى بـر أو عـلى بحـر { دنـا } بمـعـنى قـرب ، يـقـول الـواحـد للآخـر: ادن مـني ، { تـدلى } مـن الـدلـو ، تقـول أدلـيـت إذا أنـزلـت شـيـئا مـن مـكان عـال إلى مـكان سـافـل ومـنه قـوله تعالى : { فأدلى دلـوه }سـورة يـوسف 19، { قاب قـوسـين }: يعـني قــدر قـوسـين ، والـقـاب بمـعـنى الـقـدر، تقـول : بـين كـذا وكـذا قـاب ذراع ، والـقـاب : لـفـظ مـرادف للمـقـدار0
وغـالـبـا ما يسـتعـمـل الـقـاب في الـقـوس ، والـقـوس مـعـروف هـو آلـة لـرمي الـنـبال أو السـهام للـصيـد أو القـتال ، وهـو مـن الأسـلحة المعـروفـة قــديـما، ولا سـيما عـنـد العـرب ولما كانت هـذه الأسـلحة لا تـفارق العـرب صـاروا يقـيسـون بها ، فـيـقـولـون مـثـلا : إن المسافة بـين كـذا وكـذا قـيـد رمح ، أو قـيـد سـوط أو قـيـد قـوس أي مـقـدار0
وفي الحـديث الـنـبـوي الشـريـف عـن النبي صلى الله عـليه وسـلم : (لا تصلح الصلاة إلا إذا طـلعـت الشـمس قـدر رمـح ) ، وقـد اشـتهـر اسـتمال الـقـوس حـتى كان عـنـد الحجازيـين يحـسب بمـقـدار ذراع ، فـقـوله تعـالى : { فـكان قـاب قـوسـين أو أدنى } أي كان بمـقـدار ذراعـين أو أدنى ، فـمـن هـذا الـذي وصـفه الله تعالى بهـذه الأوصاف ؟0
عـن مـرة بن كـعـب بن مـرة البهـزي ، قال : قـلـت : يا رسـول الله ، أي اللـيـل أسـمع ؟ قال : ( جـوف اللـيـل الآخـر ، ثـم الصلاة مـقـبـولة حـتى يطـلع الـفـجـر، ثـم لا صـلاة حـتى تكـون الشمس عـلى قــدر رمح أو رمحـين ، ثـم الصلاة مـقـبـولة حـتى يـقـوم الـظـل قـيام الـرمح ، ثـم لا صـلاة حـتى تـزول الشمس ، ثم الصلاة مـقـبـولة حـتى تكـون الشمس قـيـد رمـح أو رمحـين ، ثـم لا صـلاة حـتى تغـرب الشمس ) ـ أخرجه الطـبراني المعـجم الكـبير حـديث رقـم ( 17144جـ 15، ص 252)0
إنه جـبريـل عـلـيـه السلام وصفـه الله تعالى عـلى صـورته الحـقـيـقـية ، التي خـلـقـه عـلـيـها ، ولجـبريـل عـلـيـه السـلام سـتـمائة جـناح ( كما صحـت الـرواية ) يـسـد بها ما بـين الخافـقـين ، أي ما بين المـشـرق والمغـرب ، يحـمـل بها ما شـاء ، كـما حـمـل مـدائن قـوم لـوط عـلـيـه السـلام عـلى طـرفي جـناحـه إلى السـماء ثـم قـلـبها وجـعـل عـا لـيـها سـافـلها ، لـم تـذكـر الـروايات شـيـئـا عـن طــوله وعـرضه وحجـمه 0
.. للحـديث بـقـية .