[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2017/03/rajb.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. رجب بن علي العويسي[/author]
لم يكن السلام العماني وليد صدفه أو رهين لحظة أو تقليدا لمظهر عالمي وجد في السلام طريقه للتنمية ومساحته للاستدامة، بل سلوك أصيل وثقافة عميقة ومنهج رصين ومسار واعد ورؤية بعيدة امتد ت مع عمان وإنسانها لقرون طويلة مضت، حتى تشربته الأرض العمانية- تلك الأرض الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا ولا تقبل إلا الطيب - وأرضعته إنسانها المعطاء، فأصبح السلام لديه عقيدة حياة ومبدأ عمل ومسار تواصل ورابطة وطنية، وقواعد أخلاقية في التعايش والعيش المشترك، فأنتج حضارة إنسان كان ولا يزال حضورها في الساحة العالمية يحظى بالإعجاب والتقدير والاحترام لسياساتها العادلة التي أنتجت من رحم السلام حياة متجددة وأملا جديدا بأن عالما يسوده السلام ويعيش إنسانه الأمن والاستقرار لحري بأن يتقدم ويتطور ويرتقي ويزدهر.
ولمّا كانت عُمان بلد التراث والثقافة والحضارة والتأريخ والعلم والعلماء، فقد شكل تراثها الثقافي والحضاري الممتد لقرون طويلة رصيدا نوعيا عزز من التفرد في الهوية والخصوصية الوطنية التي انعكست على مسار بناء الدولة ووضوح مسلكها السياسي والتنموي في الداخل والخارج وعلى بناء الإنسان وترقية الشخصية العمانية وما تميزت به من طيب المعشر وحسن المألف وسمو الخلق، وبما ضمته المفردة الثقافية العمانية من مبادئ وقيم وأخلاقيات وانجازات وتوجهات أطرت للسلام فلسفته وأسست لهم وقعه في كل مفرداتها، وعززت تجلياته في غاياتها واهدافها ومحتواها وطريقة ادائها، فاستوعبته بين مفرداتها وأدواتها وأوجدت له فرص النمو ومساحات الانتشار كمنصة التقاء واندماج في المجتمع بكل كياناته.
لقد حمل التراث الثقافي العماني في مفرداته التراثية المادية كالقلاع والحصون والمواقع الأثرية والتراثية والبيوت التاريخية والمساجد والمجالس وغيرها، أو غير المادية بما تضمنته من عادات وتقاليد وفنون ونقوش وأساليب العيش وألوان المأكل والمشرب، وطرق تقديمها وتناولها وطرائق التعبير في المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية والأفراح وأشكالها والموسيقى والآداب الاجتماعية ومدلولاتها الشعبية العميقة وغيرها، في ظل ما ارتبط بهذا التراث من آداب وسلوكيات وأذواق ومفاهيم، وروح البساطة والتضامن والتكاتف والتكافل الاجتماعي وحسن الجوار والعمل بروح الفريق في مواجهة الصعوبات بعزيمة وإصرار لبلوغ الهدف، حمل معه الكثير من المعطيات النوعية التي رسمت للشخصية العمانية مسارها المتناغم مع رصيد عمان الحضاري وسيرتها العطرة المسالمة، وأنتجت تحولات قيمية وأخلاقية عززت من السلام كمنظور حياة وممارسة رصينة، وشعور فطري، والتزام يؤسس لمساحات التعايش والحوار والتعاون، فأصبح السلام جزءا من هوية الانسان العماني واخلاقه.
على أن هذا التناغم الذي أصّله العمانيون في أساليب التعبير الثقافي لكل المفردات الثقافية الحياتية واليومية ونقلوا خلاله منهجهم في العمل وأسلوبهم في التعامل وطريقتهم في إدارة الأحداث والمواقف فأصبحت لهم الخبرة والدراية والتجربة والحنكة في إدارة العلاقات الدولية والتوازنات الإقليمية والتعامل الواعي مع مختلف الشعوب والدول المحبة للسلام والتنمية، ليعبّر عن صفحات مشرقة في التأريخ العماني، أكسبت العمانيين أهمية كبيرة ودورا مؤثرا بما حملوه في منجزهم الحضاري من عقيدة السلام والتنمية منطلقة من قيم الإسلام ومبادئه العظيمة التي شكلت سياجا حافظ العمانيون عليه والتزموا به نهج حياة وأسلوب ممارسة انعكس على تفردهم في قراءتهم للعالم من حولهم وتعاملهم مع أحداثه في ظل التزام بمبادئ السلام القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، واحترام الأديان وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وحسن الجوار، واحترام السيادة الوطنية، والتعايش السلمي، وحل الخلافات بالطرق السلمية وتغليب لغة الحوار والتصالح على مصادرة الرأي والتعنت فيه، والممارسة الأصيلة للشورى، وتوجيه العلاقات الدولية لخدمة الإنسان والتنمية، ومساندة دور المنظمات والمؤسسات واللجان الدولية والإقليمية المختلفة الراعية للسلام والتعايش، ومشاركة العالم أحداثه ومناسباته واحتفاءاته ومواقفه الساعية إلى تحقيق السلام العالمي في ظل مبادئ الحق والعدل والمساواة .
وفي سياق المفردة الثقافية العمانية فقد كان للتراث البحري الممتد في جذوره التاريخية، أثره في بناء السلام العماني، فإن النشاط التجاري والبحري لعمان الذي تفاعل مع مراكز الحضارة العالمية المختلفة ، وجعل منها واحدة من المراكز الحيوية على طريق الحرير بين الشرق والغرب ومركزا تجاريا وبحريا مزدهرا في المحيط الهندي لتمتد علاقتها إلى مختلف القوى الدولية منذ وقت مبكر، وتفاعلت بقوة مع محيطها الخليجي والعربي والدولي باعتبارها مركزا للتواصل الحضاري مع الشعوب الأخرى، وضع مفردة السلام العماني أولوية في تعاطيها مع كل الأحداث وتعاملها مع المستجدات وقراءتها لمسار التحول الذي تبني عليه فرص نجاحاتها والتي فرضت حضورهاعلى مدى قرون عديدة لتصبح عمان في مصاف الدول القوية والمؤثرة، على أن الرحلات الطويلة والشاقة المصحوبة بالمخاطر والمغامرة والبحث في عالم البحار والمحيطات المترامية الأطراف، عزّز من روح التقارب والوئام بين أبناء المجتمع ، وأصّل ثقافة الود والتعاون وحسن الخلق ووحدة الكلمة، فانقطاعهم عن الأهل والبلد لمدة طويلة من الزمن رسخت فيهم ابتكار أدوات معينة لهم في التعامل مع بعد المسافة ومشقة السفر وآليات تساعدهم في مجابهة التحديات التي تعترض خط سيرهم، فاكتشفوا أدوات الملاحة المناسبة وعززوا سفنهم بأدوات متعددة الاستخدام قادرة على التعامل مع مخاطر المواقع البحرية ووضعوا لها خطط الطوارئ ونظم الاستجابة الفورية للحالات الطارئة، واتقنوا استخدام أدوات الانقاذ والايواء والاخلاء، وأدوات المراقبة والرصد والغوص وغيرها في سبيل الوصول إلى مقاصدهم في نشر رسالة السلام والتنمية وتعزيز التبادل الاقتصادي والانتعاش التجاري، وفي المقابل كانت لقاءات الأنس والسمر والتغني بأمجاد البحر وما تحمله التعابير الثقافية البحرية من معاني التوكل على الله والعزيمة والصبر والتحمل والصمود وحب الوطن، تلهج بها ألسنة البحارة، عند خروجهم أو في أثناء سيرهم أو عندهم استشراف قدومهم، لتُستقبل قوافل التجار بالمفردات التراثية البحرية التي يغنيها أبناء الساحل العماني الممتد بما تحمله من روح المودة وعبير الأخوة وفسحة الاشتياق للأهل والجيران والأصدقاء.
لقد انعكست هذه المفردات على حياة الانسان العماني بما حمله من روح الإسلام السمحة وقيمه السامية أينما حل وارتحل فيقابل بها ضيفه ويصنع منها سباق للتنافس في الحفاظ على أخلاقه ومبادئه واحترامه لخصوصيات الشعوب في احتكاكه بهم، فاندمجوا معها بتوازن، وحرص على هويتهم العمانية وثبات على المبدأ وسلوك يعبر عن منحى التفرد الذي تتميز به إنسانية العمانيين وقابليتهم للتكيف، والسماحة والبشاشة التي كانت بارزة في تعاملهم، فأسسوا في أماكن استقرارهم موانئ التجارة وأسواق تجارية وقلاع وحصون أمنية لمراقبة السفن التجارية ومراكز العلم ومدارس القرآن والذكر ظلت شاهدة إلى يومنا هذا على أنموذج السلام العماني ومبادئه الناصعة البياض التي حملت الخير ونشرت البِشر، كما حمل بحارة عمان وتجارها في رحلاتهم البحرية في الشرق والغرب والشمال والجنوب بالاضافة إلى منتجاتهم، العلوم والفنون والمبادئ العمانية، وحذقوا في فهم ثقافة الشعوب وخبراتها وتجاربها وما تمتلكه من موارد وأدوات وآليات في تعاملهم مع معطيات الحياة ومتطلباتها، ووجدوا في مخاطر البحر ومشقة التنقل منطلقهم لتغيير صورة هذا الواقع، فأنتجت رحلات العمانيين البحرية ونشاطهم فرص السلام ونشر مبادئه السمحة وروحه العطرة لإيمانهم العميقبأن لا يأس مع الحياة ولا حياة مع الياس ليصنعوا من التحديات فرص السلام والتنمية لعالم حرم منه وشعوب تعطشت إليه.
فإن روح التسامح الديني وتجلياته في المشهد الفكري والتنوع المذهبي والاعتراف بخصوصيات الآخر واحترام عقيدته وفكره، ترجمة لمبادئ الإسلام التي احتضنها أهل عمان طوعا ورغبة وشوقا للإسلام ورسوله، فامتدحهم وأثنى عليهم، لتمتد فضيلة السلام في العمانيين وهم يتلقون خطاب النبي الكريم برحابة صدر وترحيب بمبعوث النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، كما لم يرى العمانيون في الآخر المختلف معهم تهديدا لهويتهم أو خطرا على بقائهم، بل مساحات ود للبناء على المشترك وتعميق حضور المؤتلف الإنساني وتأكيد مبدا التعددية والتنوع الثقافي الذي يبني مسارات السلام ويؤسس لأرضيات الحوار ويؤطر لمرحلة التعايش بين البشر اذ يجد الجميع فيه مسؤوليتهم في بناء عالم تسوده قيم الانسانية الواعية ويعيش انسانه حياة السعادة والاطمئنان.
وعليه فإن الاحتفاء بمرور أربعة عقود على العلاقات العمانية الصينية الحديثة وتدشين نصب تذكاري للسفينة صحار التي وصلت إلى ميناء كانتون قبل خمسة قرون وأكثر، لتخلد ذاكرة حضارية تاريخية للدور العماني في اسيا ورحلة السندباد العماني أبو عبيدة عبدالله بن القاسم أول بحار عربي يصل إلى الصين عام 752م، ليؤكد في الوقت كيف أسست المفردة الثقافية العمانية بما حملته من تاريخ حضاري بحري وتجاري واقتصادي، مسار أصيل للسلام العماني لتصبح مفرداته سفيرة للسلام ورمز للصداقة وتجديد للود وتعزيز للشراكات وتأكيد لعمق المشترك الإنساني والالتزام الأخلاقي الذي يربط عمان وشعبها بشعوب العالم المختلفة وحضاراته الممتدة، ولتؤسس لعالمنا المعاصر أنموذج السلام العماني المتفرد في أصالته وثباته ومصداقيته.