[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]”هل أنك تريد العودة إلى البداوة باعتبارها أنموذجا لوجود إنساني مثالي؟ أم أنك تأمل التشبث بمعطيات الحضارة والتقنية الحديثة على سبيل بناء الدولة المعاصرة؟ هذا سؤال مقلق بالنسبة لهؤلاء الذين يعانون مما أشير إليه هنا من "ازدواجية"، وهي ذات الازدواجية في الشخصية العربية المعاصرة التي تصدى لها عالم الاجتماع المعروف الراحل، علي الوردي.”أجد صعوبة بالغة، تصل حد الشعور بغثيان الإحباط، كلما استمعت لتبجح البعض بأصوله البدوية وتباهيه بالتمسك بها، بوصفها من دواعي التفوق، برغم احتضانه لكل ما هو مدني أو حضري: من الملابس الأوروبية إلى الأجهزة الحديثة، ناهيك عن الدعوة لدولة مؤسسات تتجاوز قيم البداوة ووحشة الوجود في الهوام!للمرء أن يلاحظ هذه الظاهرة المنتشرة والمنتشية الآن عبر مجتمعاتنا العربية، وكأن المتمسكين بها يريدون العودة إلى عصر عنترة العبسي والحطيئة، جرير والفرزدق، ولكن تحت ظلال "ناطحات سحاب" مستوردة، مسلفنة، ومستزرعة في الصحارى العربية التي عصيت على التغير والاستحالة برغم كل ما بذل من الجهود والأموال لاستزراعها وإحالتها إلى حدائق وبساتين غنّاء.إن تواصل ظاهرة التشبث (اللفظي والشكلي والتظاهري فقط) بالبداوة وبطبيعة الوجود الإنساني في البادية من قبل العديد من النخب الحاكمة أحيانا لا يمكن إلا أن يستدعي التهكم والسخرية، زيادة على النظرة الدونية، خاصة في أنظار أولئك الخبراء المستأجرين لإعمار مدننا التي فاقت حواضر أميركا وأوروبا في أحجام كتل الكونكريت العالية، الصماء التي لا تمت للصحارى بأية صلة: فما هذه الازدواجية: هل أنك ترنو إلى دولة قانون ومؤسسات تعمل بالشبكات الرقمية؛ أم أنك تحن إلى ماضٍ لم يعد حتى استذكاره ممكنا، ولا حتى في صناعة السينما.بل إن هذه الأسئلة والاستفهامات هي التي أضنت أحد مؤسسي "علم الاجتماع"، وأقصد به ابن خلدون، ذلك المفكر الوسيط الذي عمد إلى التمييز بين "العرب" و"الأعراب"، بمعنى سكان المدن من متكلمي العربية، وبين المرتحلين في الصحارى من هؤلاء الذين ما زالوا على حال "ربي كما خلقتني" منذ الأزل يجوبون القواحل، بحثا عن الماء والكلأ، طافين، بلا حول ولا قوة، على مدار لا زمني غير قابل للتقسيم المتوافق والذبذبة التي اعتادها سكان المدن.هل أنك تريد العودة إلى البداوة باعتبارها أنموذجا لوجود إنساني مثالي؟ أم أنك تأمل التشبث بمعطيات الحضارة والتقنية الحديثة على سبيل بناء الدولة المعاصرة؟ هذا سؤال مقلق بالنسبة لهؤلاء الذين يعانون مما أشير إليه هنا من "ازدواجية"، وهي ذات الازدواجية في الشخصية العربية المعاصرة التي تصدى لها عالم الاجتماع المعروف الراحل، علي الوردي، بوصفها سمة من سمات المجتمعات الانتقالية وغير المستقرة، أي المجتمعات الحائرة بين خيار البداوة، وخيار الدولة المدينة الحديثة، حيث تلغى جميع الإشارات إلى القبيلة والأصول، زيادة على حذف مدلولاتها، من محسوبية ومنسوبية.لمَ، إذن، لا يشب الإنسان، ثم يشيب مع رؤى وجودية ومستقبلية مبعثرة وغير متجانسة فهو "ابن البادية"، تارة، وابن..."، متبغددا، تارة أخرى!