اعداد ـ أم يوسفالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد .. نعيش مع سورة الكهف من خلال تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.سميت سورة الكهف لما فيها من المعجزة الربانية في تلك القصة العجيبة الغريبة قصة أصحاب الكهف ، وهي مكية، من المائين نزلت بعد سورة (الغاشية)، تبدأ باسلوب الثناء ، بدأت بالحمد لله، تحدثت السورة عن قصة ذي القرنين وسيدنا موسى والرجل الصالح .. وهي إحدى سور خمس بُدِئت بـ (الحمد لله) وهذه السور هي: الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر وكلها تبتدئ بتمجيد الله جل وعلا وتقديسه والاعتراف له بالعظمة والكبرياء والجلال والكمال.قال تعالى:(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).قوله تعالى:(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، قال أبوجعفر النحاس: وفي هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى:(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ففي هذا قولان، أحدهما: وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول: أطعمته عن جوع.والقول الآخر: وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي) وقف عزوجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله: (أفتتخذونه) يا بني آدم وذريته أولياء، (وهم لكم عدو) أي: أعداء، فهو اسم جنس، (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) أي: بئس عبادة الشيطان بدلاً عن عبادة الله أو بئس إبليس بدلاً عن الله، واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه، فقال الشعبي: سألني رجل فقال هل إبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله:(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ) فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم، وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات فهذا أصل ذريته، وقيل: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكراً وفي اليسرى فرجاً فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطاناً وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة، وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين، قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس اتباعاً وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح.قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسنداً عن أبي محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ)، وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله اعلم. قال ابن عطية: وقول (وذريته) ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل، وذكر الطبري وغيره أن مجاهداً قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق، وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب، والأعور صاحب أبواب الزنا، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلاً، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه، قال الأعمش: وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء، وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان ـ عليه السلام ـ والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها، والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها، ومرة وهو صاحب المزامير وبه يُكنى، والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان، وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان، قال: وقال الداراني: إن لإبليس شيطاناً يقال له المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية، قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة ، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطاناً يسمى خنزب، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان، قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح، وأما أن له اتباعاً وأعواناً وجنوداً فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره.وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث، وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم):(لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته)، وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبدالله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضلَّ مسلماً ألبسته التاج قال فيقول له القائل: لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج، ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عقَّ، قال: يوشك أن يبر، قال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب، قال: أنت، قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنا، قال: أنت، قال ويقول: لم أزل بفلان حتى قتل، قال: أنت أنت) .. وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال: فيدنيه، أو قال: فيلتزمه ويقول: نعم أنت)، وقد تقدم وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبدالمعطي بثغر الإسكندرية يقول: إن شيطانًا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا .. والله أعلم.