كان يُناديني بالحسناء الضائعة في الزمان المُناسب والمكان المُناسب، حين تبدأ تلك القسمات الغريبة بالظهور على وجهي من أثر كلامه الرجعي. وكم من مرةٍ كانت طُرفاتهُ الثقيلة التي من الصعب أن يتحملها أي غريب تعُج في قلبي من الفرح وتشق وجنتي مُبددة شحوبها وترهُلاتها التي لا يُشبُعها سوى روحِ عفويةٍ.
كل يوم يحمل مرايا ستقف بجانبها وأنت تتأمل قسمات وجهك وما أخذ الدهر منها، ولكنني لستُ نادمةً عما أحالهُ الزمان بي، فكُل تجعيدةِ في وجهي حَصلت أثر جُهد كُنت لابد أن اسعى الى تحقيقه وأحياناً كثيرة ماكُنت اتربصُ بتلك الفُرص واقتنصُها من كف الغياب.
ما زالت الريح تصفُر في قلبي الضامر دون كلمة مُقدسةٍ تُطفئ ذلك العذاب والإغتراب. وعلى أبواب الشتاء، لا وقع ولا هجس إلا لبُخار الأفواه وعيونِ من زُجاج لا تدمعُ ولا ترمشُ من أزير البرد.. كُنت أرقب شجرة الزيتون وقد تجمدت ثِمارُها، عندما تعود جدي النظر الى محصولها كُل يوم لكونها مصدر رزقنا الوحيد وهو يُردد قول الله تعالى: (والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، في ساعات الصباح الباكر وأنا بالقُرب من فلج قرية سوق بغداد أغسل الصحون والأطباق من عشاء الأمس وأنا أفكر كُل يوم بكلام جدي حين كان يقُص علينا كُل ليلةٍ سبب تسمية قريتنا بهذا الإسم وقد أقض البرد هجعتي، ابتسمتُ ويداي قد تأكلها الصقيع وكأن الإبر المُخدرة تلسعها حتى أصبحت تترهل بكُل سهولة بسبب تلك الأعمال.
حملتُ أطباقي عائدة إلى منزلنا الطيني والماء يقطُر على رأسي وقد تناثر شيء منه على عيني الخدرة. كان منزلُنا أشبه بعش الغُراب وكما أحب أن اسميه بالقطعةِ الخزفيةِ الأثرية، وقد رأيتُ الدُخان يتصاعد من فناء البيت.. علمتُ أن أختي الصغيرة البالغة من العُمر 14 عاماً قد استيقظت وكما عودتُها على اشعال النار كُل صباح لتحضير الفطور لإخواننا التسعة كان أمراً يتوجب علينا نحنُ الإثنتين الإستيقاظ باكراً فالحياة ليس فاخرة كما يظُن البعض.!
ربينا في قرية سوق بغداد وقد كانت معروفةً بإسم بكدادوا منذ ما يُقارب ألفي سنة قبل مجئ الإسلام، وفي سنة 13هـ دخل الإسلام الى العراق على يد الخليفة أبو بكر الصديق، وكما كان جدي دائماً يقُص علينا تلك الأحداث المُشوقة التي كُنا نجهلُها كان يبدي على حديثهِ شيئاً من التباهي على ماضي هذه القرية فقد كان يُضفي على اسطواناتهِ المعهودة حديث أهل الحيرة عندما وصف قريتنا لابن حارثة الشيباني بقرية التُجار من مدائن كِسرى و تُجار السواد. لقد كان جدي كثير الشغف بتاريخ وعراقة قريتنا ونحنُ نستمع لحديثه الملون كُل يوم قبل ساعات الغروب وقبل موعد النوم مُبدداً تلك الأحزان التي تسترق السمع في زوايا منزلنا الخزفي.
صباحٌ أخر والأوضاع مثل ما عهدتُها ونحنُ نُلصق جِراح بعضنا البعض وسط أزير البرد وحديث الحروب. هممتُ في تحضير الفطور وأنا أجلس على كُرسي خشبِي صغير والقدر يغلي على نارِ من الصبر وعينان سارحتان في أختي الصغيرة وهي تعجنُ الخُبز وقد تلطخ الطحينُ على وجنتيها، شئ من العفوية والدفء رسم ابتسامةً صباحية على وجهي.
بدأتُ في تحضير السفرة لأخواني التسعة، لقد كان الجو شديد البرودة على غير العادة حين قررتُ وضعها في داخل بيتنا الخزفي خشية أن يُجمد البرد الطعام..دخل جدي وقد بدأ يُلقي كلامهُ الذي كان يُرددهُ كُل صباح حتى يستيقظ الجميع:
نهضَ الصباحُ على فمكْ ثُمَ انتشى
لا ليلٌ يفترسُ الجوارْ، ولا شوكٌ ينتزعُ الجدارْ
لا وحشُ يخترعُ الحصارْ، ولا شكَّ يفترسُ السوارْ
استيقظ الجميع ثم تهافتوا على طعام الفطور كالجراد، كان جدي كغيره من كبار السن كثير الصبر والحُب لأحفاد أبنائه الراحلين فقد كان يتسامر معهُم قبل أن يذهب أخواني الأربعة البالغين الى الحقل وكُنت أضع أخواني الخمسة الصغار على سفرةٍ أخرى حين كُنا نتسامرُ قليلاً قبل أن يهم الجميع في عمله..
لقد كُنتُ بمثابةٍ الأم للجميع فمنذُ رحيل سراج البيت وأخي الصغير البالغ من العُمر 6 سنوات لا يكُف عن مُناداتي بأمي حين ينتابهُ شي من الحُزن أو الخوف وعلى الرُغم من قلة صبري وضُعف حيلتي أحياناً يعتريني شئ من اليأس والخذلان ولكن تلك الأحاديث المسائية كانت دائماً تُخفف عنا غائلة الفقد والحرمان.. كانت أختي الصُغرى تُنظف المنزل بينما كُنتُ أجلس تحت شجرة العنب أصنع السِلال مع جدي وهو يستمعُ الى المذياع مُحاولاً معرفة كُل جديد عن أحاول بلدنا ولكن كثيراً ما كُنا نتجنب تلك الأخبار مُتناسين تلك الجراح كمن يرغبُ في النوم ليحلم بواقعِ أجمل.
نحنُ نفتقر الى التعليم والمعرفة، ولكن كُنا كثيراً ما نجتمعُ بعد الغداء وقد اعتاد اخي الأكبر أخذ كِتاب من المكتبة ليُمتعنا بالقراءة ونحن نستمعُ له بحرص قبل أن يذهب جدي ليأخذ قسطاً من الراحة عندما كنتُ ارسل اخواني الصغار الى السوق لبيع السلال وأخذ قسط من الراحة في غياب ازعاجهم وشكاويهم الدائمة.
لقد كانت فترة الغروب كثيرة البرودة حين اعتدتُ الذهاب لجمع الحطب لتحضير العشاء قبل عودة الجميع الى المنزل، ولكن هذا المساء كان مُختلفاً حين كنتُ كالمُعتاد مشغولةً في إعداد السفرة وقد عاد أخي الأكبر وهو يحمل صورةً كبيرةً في يده وطلب مني تعليقها على الحائط. هممتُ في تعليقها، لقد كانت تحملُ صورة بُرج ثُم قال وسط تحديق الجميع في تلك الصورة الغربية على ضوء القنديل: هذهِ صورة لبُرج إيفل في مدينة باريس كما كنتُ كثيراً أحدثكم عنها.. حين قال أخي شاكر البالغ من العُمر 10 سنوات: يا أخي هل من المُمكن أن نذهب لرؤيته غداً؟
ومع ذلك السؤال العفوي أخذ جدي يضحك بطريقةٍ مُبالغة، ثُم قال: تأمل الصورة وستشعر كما لو كُنتَ هُناك حقاً.. لقد بدت ملامحُ الخذلان تبرزُ على وجه أخي شاكر عندما قال لهُ جدي وسط صمت الجميع وتجهُمهم:
صبحتهُ عند المساء فقال لي:
ماذا الصباحُ؟ وظن ذاكَ مُزاحاً
فأجبتهُ: إشراقُ وجهكَ غرني
حتى تبينتُ المساء صباحاً
كان يُحاول إزالة ذلك التجهُم والعبوس الماثل على وجه أخي الصغير، قاطعتُ تلك الأحاديث المُفاجأة بكوبِ من حليب الماعز الدافئ، حين بدأ أخي الأكبر يتحدُث عن تلك المُدن المُشتهرة بجمالها وبناياتها في مُختلف دول العالم لتمتلئ تلك الغرفة الضيقة بالأحاديث المسائية لتشيح البرد والحُزن.. حين غط الجميع في نومِ عميق وأنا لازلتُ أتأمل تلك الصورة الورقية على ذلك الجدار الطيني..
وقد كان في ذهني سؤال ألفتُ ترديدهُ: ماذا لو...

نوال بنت حمود المعمرية