[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
”من الصعب حصر غسان كنفاني في حقلٍ أدبي أو سياسي معين، فهو القاص والروائي والرسام والسياسي, المناضل الذي جعل من قلمه أداة نضالية في تصوير معاناة شعبه, وتحريضه لاستعادة حقوقه من خلال القيام بالثورة ضد العدو. لم يرتضِ ,غسان بالأفكار السائدة أو المألوفة التي صورت الفلسطينيين في الخمسينيات وبداية الستينيات, كشعبٍ مسكين مغلوب على أمره, وفقط يحتاج إلى تقديم المساعدات إليه!”
ـــــــــــــــــــــــــــ

في الذكرى الخامسة والأربعين لاغتياله في الثامن من يوليو عام 1972, ما زال غسان كنفاني يشع أدبا مقاوما, أدبا ينبض حرية ووعدا بالتحرير في مسيرة شعبنا الطويلة نحو النصر. امتلك شهيدنا نفاذ بصيرة أبت إلا أن تكلل الشمس بزهور نبتت في كرملنا, وتزنرها بالأمل القادم حتما, رغم المأساة والمعاناة والصعاب. امتلك شهيدنا مسار الطريق, رغم الظلام التي ساد أجواءها, وغم الإظلام المقصود ,الذي وُجه إليها. كتاباته تخذت شكل الطبيعة وحواريتها الإلهية, وامتدت نورا يضيء رحلة الوعي الممتدة في جبال الشوك والشوق, حيث المنافي والعذابات في صحارى الكون ومساحاته الممتدة أفقا قاسيا, يحمل الاضهاد للفلسطيني من الجموع المجاورة الكثيرة, وقد رأت فيه مشروعا للتعدي على نرجسيتها الموغلة في أذهان الكثيرين من أبنائها.
ببراعة قلمه دق جدرانا وليس جدارا واحدا, ليوقظ حقائق القضية, وليستنهض همما ركدت وقتا طويلا! غسان كنفاني, الذي سكن الوطن في نسغ حروفه. واتسعت شرايينه لتضاريسه الفلسطينية الجميلة, سكن أيضا في ضمير الوطن, إن لم يكن جسدا, فإنما روحا ومدادا يواصل الآخرون رحلة ثورتهم به, وكان العناق مع الأفق الصباحي الممتد على جبالنا وسهول أرضنا وشاطئها البحري الهادر بالتاريخ, كما مدننا التي رست قبل ميلاد الزمان, مر عليها أجدادنا اليبوسيون, ومن ثم الكنعانيون الفلسطينيون العرب. "ما تبقى لنا" من غسان أشياء كثيرة, تنتقل في الزمن, وتخترق جدار الصوت, ليسمع العالم انطلاق الثورة, ولينادي المنادي, بأننا مستمرون بها حتى النصر والتحرير.

غسان, وهو أحد أهم أدباء المقاومة, سبق وأن كتب عنها, ففي مقدمة كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال: 1948-1968" جاء ما يلي: "في الواقع, فإن أدب المقاومة - على وجه الخصوص - لم يكن أبدا ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية، وفي هذا النطاق, فإن المقاومة الفلسطينية قدمت, على الصعيدين الثقافي والمسلح, نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة. وحفل التاريخ الفلسطيني, منذ الثلاثينات على الأقل, بمظاهر المقاومة الثقافية والمسلحة على السواء, واذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها شعب فلسطين, قد انتتجت أسماء من طراز عز الدين القسام مثلا، فإن أدب المقاومة قد انتج, قبل ذلك ومعه وبعده,أسماء من الطراز نفسه, ما زال المواطن العربي يذكرها بكثير من الاعتزاز, ومن أبرزها إبراهيم طوقان, وعبد الرحيم محمود، وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي) وغيرهم.... ويستطرد الشهيد ... ولكن ما يميز الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة منذ 1948 حتى 1968 هو ظروفه القاسية البالغة الشراسة, التي تحداها وعاشها، وكانت الأتون الذي خبز فيه إنتاجه الفني, يوما وراء يوم".عدا عن كل إبداعات غسان كنفاني في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية, فإن له فلسفته الخاصة في تفسير الظواهر الإنسانية, وللعلم فإن الثورة على الاحتلال من أجل الحرية, هي أبرز تلك المظاهر. يقول الشهيد كنفاني فيما يتعلق بالكفاح المسلح, من أنه "لن يكون مجديا إلا إذا كان كفاح مواطنين تحررت إرادتهم وعقولهم". كما دعا إلى "المزاوجة بين النظرية والممارسة" وإلى "عدم التعامل مع الحلول المطروحة بدلاً من هدف تحرير الوطن".
من الصعب حصر غسان كنفاني في حقلٍ أدبي أو سياسي معين، فهو القاص والروائي والرسام والسياسي, المناضل الذي جعل من قلمه أداة نضالية في تصوير معاناة شعبه, وتحريضه لاستعادة حقوقه من خلال القيام بالثورة ضد العدو. لم يرتضِ ,غسان بالأفكار السائدة أو المألوفة التي صورت الفلسطينيين في الخمسينيات وبداية الستينيات, كشعبٍ مسكين مغلوب على أمره, وفقط يحتاج إلى تقديم المساعدات إليه! غسان كنفاني رفض هذا الواقع وقام بعملية تحريض واسعة لأبناء شعبه من خلال مؤلفاته: ففي رواياته"عائد إلى حيفا" ,و"أرض البرتقال الحزين", و"سرير رقم 12", و"رجال في الشمس" وقصة "ما تبقى لكم" يتطرق إلى رحلة اللجوء من حيفا إلى مدينة عكا الفلسطينية, وإلى الترحال من عكا إلى الشتات, وإلى الذات في تصوير معاناة الشعب من خلال المرض العضوي بالحنين إلى الوطن, واستعرض رحلة اللجوء الفلسطيني للكويت للفلسطينيين بحثا عن العمل. ثم جاءت صرخته , بالدق على الذاكرة الفلسطينية للانتصار على الواقع, بالثورة ضد محتلي الأرض ومغتصبي إرادة شعبنا.
لقد حظي شهيد الشعب الفلسطيني الكبير باهتمام الباحثين, وقد أجمع كثيرون منهم على مقارنة رواياته بروايات (وليم فوكنر) وتحديدا روايته بعنوان "الصخب والعنف", ورواية مكسيم جوركي "الأم" كما قارنوا بين روايته "عائد إلى حيفا" ومسرحية برتولد بريخت "دائرة الطباشير القوقازية " ومسرحية ت.س اليوت بعنوان "كاتم السر", وغيرها بالطبع. ومع الاحترام الكبير لكل الآراء تلك, فإن ما كتبه غسان كنفاني من روايات, لا تتشابه مع ما قورنت به من روايات لا شكلا ولا مضمونا ولا وصفا. هذا لا يعني عدم تأثر شهيدنا بروائيين أوروبيين, لكن روايات غسان تحمل وتبحث في موضوع فريدٍ خاص, لا يمكن أن يتناوله غير الروائي الذي طُرد وشعبه من أرضه, وهو تحديدا الروائي الفلسطيني. المقاومة كموضوع مفهوم ذو معنى واسيع, مقاومة العدو, مقاومة الطبيعة القاسية, مقاومة سياسات التجهيل وغيرها. قد يشترك روائيون عديدون في ذات الموضوع, لكن هذا لا ينفي خصوصية تجربة الكاتب وفقا لظروف شعبه والبيئة المحيطة بتشكل وعيه, عواملها وإرهاصاتها. لقد شكلت مقاطعة "يوكناباتوفا" مسرح الأحداث الأساسي في معظم أعمال فوكنر, وهي منطقة متخيلة لكنها ترتبط بقوة بالأماكن التي عاش فيها الروائي , والأشخاص الذين عرفهم. ربما يكون تأثر كنفاني بمن قورن بهم من روائيين, فقط بالتكنيك الروائي والملامح الصياغية, إن في التداخل بين الماضي والحاضر والمستقبل أو في الشكل الصياغي للتقنية الروائية (أي حبكتها). لذا, فإن لكل روائي تكنيكه الروائي الخاص به وإلا انعدمت تجربته الروائية الخاصة (الذاتية), وهي الصفة الملازمة لكل أعمال مطلق روائي, قد يتشابه الروائي مع آخرين من الروائيين على مستوى العالم, لكن ذلك تشابه حر, موضوعي, علمي, وليس تشابها يأخذ معنى التقليد.
ولعلني أتفق مع ما كتبته الروائية المرحومة رضوى عاشور حول أوجه الاقتراب وأوجه الاختلاف بين رواية كنفاني "ما تبقى لكم "وبين رواية "الصخب والعنف" لوليام فوكنر, فقد خلصت إلى ما يلي: "أن الرؤية لدى كل من غسان كنفاني وويليام فوكنر مختلفة اختلافا جوهريا. أما التأثر فهو تأثر شكلي بحت. لقد قرأ غسان رواية فوكنر وسحر بها واستعار منها العديد من انجازاتها الشكلية, ولكنه اخذ يطوع هذه الانجازات من اجل التعبير عن موضوع له خصوصيته الفلسطينية". بالفعل فقد بدا وكأن تأثر كنفاني بوليم فوكنر هو الأكثر دراسة فقد اتى عليه كثيرون, مثل فضل النقيب وعز الدين المناصرة وفيحاء عبد الهادي وحبيب بولص وغيرهم. كما علينا أن لا ننسى أن جانبا آخر في أدب كنفاني يتمثل في رده غير المباشر على الأدب الصهيوني المكتوب باللغة الانجليزية أو المترجم إليها. وهذا الجانب لم يلتفت إليه الباحثون للأسف باستثناء قليلين معروفين. لقد درس الشهيد كنفاني ,الأدب الصهيوني واصدر عنه كتابه المشهور "في الأدب الصهيوني" عام 1966 وفيه درس روايات مشهورة مثل رواية "لصوص في الليل" لـ آرثر كوستلر ,و "نجمة في الريح" لـ روبرت ناثان و "اكسودس" لـ ليون أوريس.
سيظل وهج أدب غسان المقاوم , ينير للفلسطينيين الطريق في رحلتهم نحو تحرير الوطن الفلسطيني الخالد.