** ألقيت هذه الورقة في ندوة استثمار الثقافة بالنادي الثقافي
الخصخصة: المصطلحات والنماذج
بحسب البنك الدولي يتم تعريف الخصخصة على انها " نقل او تحويل المشاريع العمومية ذات النفع العام من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص"، ولكي يكون هذا التحويل مفيدا ً وعمليا ً ويحقق الأهداف المرسومة له، من الضروري معرفة أهداف هذا التحويل في الملكية، كما انه من الضروري معرفة الآثار الكثيرة واللاحقة لهذا التحويل. تتلخص هذه الأهداف في النقطتين التاليتين:
1) عقلنة أو ترشيد الإنفاق العام: تتجسد هذه العقلنة أو هذا الترشيد في تقليص الإنفاق الحكومي وتقليل صافي المبالغ المحولة لهذه القطاعات من الميزانية الحكومية، وهو ما يعني مساهمتها في الدخل العام، الأمر الذي يساهم في تقليص العجز الحكومي في بعض السنوات.كما تساهم هذه العملية في تفعيل الجانب المحاسبي للمصاريف ورؤوس الأموال التي يتم انفاقها.
2) تحسين الفعالية الاقتصادية : يقوم هذا التحسين على فرضية ان الإنتاج للسلع والخدمات يصبح أكثر فعالية عندما يتم تحويل هذه النشاطات من القطاع الحكومي للخاص، فهو يقوم بتطوير الأسواق المحلية مما يعني جذب الاستثمارات الخارجية من جهة، كما انه يخفف العبء الإداري عن القطاع الحكومي من المتابعات الإدارية المستمرة من الجهة الأخرى، مما يعني تقليل الإجراءات البيروقراطية وتسهيل العمليات من الجهة الأخرى.
ولأجل تحقيق هذه الأهداف كان من الضروري القيام ببعض التعديلات المتعلقة بتغيير بعض القوانين والتشريعات، وتغيير الملكية، وغيرها من التعديلات. ذلك انه مع البدء في هذه التعديلات سيتم نقل صناعة القرار في هذا الشأن من الجانب الحكومي الذي تسيطر عليه البيروقراطية الزائدة بمعناها السلبي، إلى منطق اقتصاد السوق المتحرر او المتخفف منها، مما يعني وضع قانون جديد للاستثمار يتسم بالمرونة والحيوية والانفتاح.
تقتضي تغيير الملكية في هذا السياق وكما ورد سابقا ً، نقلها من القطاع الحكومي للخاص، العديد من المتطلبات وهي كالآتي :
1) الشفافية: يعتبر هذا العامل مهما ً جدا ً، لقياس التدفقات المالية للمؤسسة، ومعرفة مواضع انفاقها، والمصروفات المختلفة، الأمر الذي يعني بأن الكثير من المصروفات تصبح واضحة المعالم، على أن تكون هناك مراجعة سنوية لأوجه الإنفاق، كما تشمل الشفافية ضرورة مرور هذه الإجراءات بطرق واضحة، الأمر الذي يمكن الجهات الرقابية من تعديل هذا المسار بشكل ٍ مستمر.
2) التنافسية: يعتبر مؤشر التنافسية عاملا ً مهما ً للنمو السريع، ففي ظل وجود تنافس حُر، متخففا ً من القيود الإدارية من الممكن للكثير من المشاريع ان تنمو وتزدهر، فالتنافس مرتبط بمستوى الحرية، ذلك ان "المستهلك يحظى بالحماية من اكراه البائع له نظرا ً لوجود بائعين آخرين يمكنه التعامل معهم" (1)، وهو ما ينطبق الى حد ٍ كبير على بقية المؤسسات، التي تخضع لمنطق العرض والطلب، حيث ان "الاحتكار يقتضي، ضمنا ً غياب البدائل وبذلك يحول دون تحقيق حرية التبادل التجاري الفعال"(2).
3) الحرية : يتطلب الشرط الثالث مستوى مرتفعا ً من الحرية، وهذه الحرية لا تقتصر على حرية تدفق رؤوس الأموال من الخارج للداخل، وحرية الإبداع والتعبير عن المبادرات الفردية التي تعتبر العمود الفقري لليبرالية بشكل ٍ عام، ولجانبها الاقتصادي بشكل ٍ خاص ، ذلك ان الحرية هنا هي " المحدد الرئيسي للمبادرة الفردية والفعالية الاجتماعية . فالمزيد من الحرية يعزز قدرة الناس على مساعدة أنفسهم و كذا على التأثير في العالم"(3)، كما ان الحرية حسب تقرير التنمية البشرية 2009م ، تساهم ليس في انتقال الأفراد وتحركهم من دولة لأخرى طلبا ً لحياة أفضل فقط، بل تساهم كذلك في "تحسين مستويات التنمية البشرية ، حيث ان التدفقات المالية الضخمة التي دخلت الى الصين من عام 1984م – 1995م ، ساهمت في رفع مستويات التنمية البشرية" بشكل ٍ كبير، بالرغم من الكثير من الملاحظات الأخرى المتعلقة حول حقوق الإنسان، والحقوق السياسية وغيرها. اضافة لذلك، تساعد الحرية في إنشاء مناخ عام للاهتمام بالقضايا العامة، وهو ما يعزز شعور المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطن، الامر الذي ينعكس على مقدار التفاعل العمومي مع الشؤون المختلفة.
4) تحويل المُلكية : يعتبر عامل تحويل المُلكية المشار إليه أعلاه من العوامل الحاسمة والجدلية في الخصخصة والتي أثارت الكثير من النقاش ضمن أدبيات الخصخصة العالمية، غير ان هذا التحويل و انفتاحه يعني إنتعاش السوق الاقتصادي، وازدياد المنافسة في هذا القطاع بين المالكين لهذا النوع من الانشطة، ففي سياق تجارب الكثير من الدول في هذا المجال، قامت بعض الدول وبدرجات ٍ متفاوتة بتخصيص الكثير من القطاعات الحيوية كالاتصالات والماء والنقل والتعليم والرعاية الصحية...الخ، مما وضعها امام شروط جديدة للعبة الاقتصادية.
غير ان الخصخصة ليست هي الفردوس المفقود الذي ينتظره الجميع، او هي ليست تلك الرافعة السحرية التي ترفع أداء جميع المؤسسات بشكل ٍ سريع وفعال، ذلك ان لها الكثير من العيوب مثلما ان لها الكثير من المزايا أيضا ً، فهي اعتبارا ً من بداية ثمانينيات القرن المنصرم و تحديدا ً من تلك التحولات العالمية المختلفة، في السنوات 1978م- 1980م التي توجت بأربعة أحداث عالمية في مناطق مختلفة من العالم، ففي العام 1978م تجسد هذا التحول باتخاذ الصيني دينغ جياو بينغ (1904م – 1997م) أولى الخطوات الحاسمة لتحرير الاقتصاد الصيني في بلد يشكل خمس سكان العالم، كما ان تولي بول فولكر في العام 1979م، لقيادة البنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي وأحداثه للكثير من التغييرات النقدية المتعلقة بهذا الخصوص، بالإضافة لانتخاب مارجريت تاتشر كرئيسة وزراء بريطانيا في 1979 م، اضف الى ذلك انتخاب الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في العام 1980م (4)، قد اتجهت بالاقتصاد في اتجاهات مختلفة، غير مسبوقة، أي نحو تلك الإجراءات التي " تحتم على الدولة إبقاء تدخلاتها في الأسواق على أدنى المستويات الضرورية"(5)، الأمر الذي يعني "إطلاق الحريات والمهارات التجارية الإبداعية للفرد، ضمن إطار مؤسساتي عام يتصف بحمايته الشديدة لحقوق الملكية الخاصة، وحرية التجارة، وحرية الأسواق الاقتصادية"(6).
ولكن ماذا يعني ذلك ؟
هذا يعني من ضمن أشياء كثيرة، ان تُخفف المؤسسة الرسمية تدخلاتها المختلفة (الرقابية، والأمنية وغيرها) بشكل ٍ كامل، ونهائي، مرة واحدة، ذلك ان هذه التدخلات لا تُصبح ضرورية، بحيث انها تقتصر فقط على الجانب التشريعي والتنفيذي والرقابي المحدود، دونما التدخل في التفاصيل والإجراءات الروتينية اليومية.حيث أن هذا التخفيف من التدخلات يمنح الفعاليات والأنشطة الكثير من الحيوية والانفتاح، في ظل هذا التعولم غير المسبوق، كما ان من الممكن ان يصبح مصدر جذب للعديد من الاستثمارات والأفكار الحيوية، وهو ما يساهم بشكل ٍ مُباشر في تشكيل هويات، وأذواق، ومسارات جديدة للحياة، ومصادر دخل لا تخضع للأنظمة البيروقراطية بالمعنى السلبي.
في هذا السياق، تعتبر الخصخصة خيارا ً ثالثا ً بين خيار التدخل الكبير وشبه المطلق للحكومات من جهة، أو وضع تفاصيل الأمور في يد القطاع الخاص بكل ما يشمله من رغبات ربحية جامحة من الجهة الأخرى، وفي الحالتين يجد المرء نفسه أمام ضرورة التوازن بين الجانبين، غير ان عدم تدخل الدولة في هذا السياق من الممكن أن يحّول الكثير من المؤسسات الى إجراءات لا ترى من المستهلك الا الجانب المادي منه.
الخصخصة من الخدمات الى المعرفة :
تركزت الخصخصة بالمعنى التقليدي والمتعارف عليه في بعض الجوانب الاقتصادية فقط ، ذلك المتمثل في الخدمات التي تقدم للجميع، كالكهرباء والاتصالات وغيرها، غير انه في العقود الأخيرة، وبفضل العولمة الشاملة نجد أن الثقافة قد قفزت إلى قلب المشهد العالمي، فهي لم تعد البنية الفوقية التي تتأثر بأنماط الإنتاج، وأساليب الحياة السائدة في كل عصر حسب الرؤية الماركسية لها، بل أصبحت هي الفاعل الأول والرئيسي في العالم، والمجتمعات، كما انها أصبحت تقود التحولات المختلفة في العالم، وعاملا ً من عوامل الترفيه الرئيسية وفي نفس الوقت عاملا ً من عوامل التوترات العالمية أيضا ً، ذلك ان مفهوم الثقافة قد اتسع وتعاظم كما لم يحدث من قبل، فهي لم تعد تقتصر على التُحف الفنية العتيقة، والأحجار التي يتم الاحتفاظ بها في المتاحف والمعارض، كما انها لم تعد تقتصر على شخصيات محددة، تخدم تيارا ً واحدا ً فقط، او محدودة بنوع ٍ معُين من المعارف والأشخاص النخبويين كما هو التصور التقليدي، بل أمست وبفضل العولمة مسرحا ً للهيمنة، ورمزا ً للتوسع الرمزي لثقافة معُينة، الأمر الذي جعل هذه الورقة تطرح خيار الخصخصة الثقافية كإضافة مهمة لهذا المسار على المستوى المحلي تحديدا ً ، فهي تقوم على الخطوات التالية :
1) إعادة هيكلة المؤسسات الثقافية: يعتبر التعدد في وجود المؤسسات الثقافية في عُمان عاملا ً ايجابيا ً، يوحي بالتنوع في الأنشطة والفعاليات، غير انه من الجانب الآخر، يشير إلى التكرار والرتابة والسقوط في فخ الروتين والإجراءات الرسمية المفُرطة في التعقيد، مما يعني بأننا بحاجة الى إعادة هيكلة هذه المؤسسات الثقافية، ودمجها مع بعضها البعض، لتنتج بالتالي مؤسسات جديدة أكثر فاعلية، وأكثر إنتاجية أيضا ً، مع وجود خطط سنوية واضحة للفعاليات والأنشطة، ذلك انه وبالرغم من هذا التعدد الذي يوحي بالاختلاف نجد أن المستوى الثقافي متواضعا ً من ناحية الفعاليات، ونوعيتها، واتجاهاتها التي تتناولها، وهو ما يؤثر الى حد ٍ كبير على التفاعل الجماهيري المنُتظر.
2) لامركزية المؤسسات الثقافية: في الكثير من الأحيان تعتبر المركزية في الأنشطة والتركيز على مناطق جغرافية معينة، عاملا ً من عوامل نفور المتلقي وعدم اهتمامه بالجانب الثقافي والمعرفي، ولأجل ذلك من الضروري تنشيط هذا الفعل من خلال توزيع الفعاليات خارج المناطق المركزية على المستوى المحلي، وفتح المشاركات على المستوى الخارجي كعامل مساعد للتعريف بهذه المؤسسات ولأنشطة والكثير من الاسماء المحلية التي تعتبر مجهولة في الخارج.
3) جذب المجتمع المحلي : لزيادة فعالية وانتاجية هذه المؤسسات الجديدة، ولكي يشعر افراد المجتمع بأنها تنتمي اليهم، وبأنه قادرون على المساهمة فيها، ينبغي التوجه للمهتمين في كل منطقة، خارج المركز، واشراكهم بشكل ٍ مباشر وفعلي، مع ضرورة الابتعاد عن المواضيع التقليدية، المملة والمكررة، الأمر الذي يعني بأنه من الضروري بث روح جديدة من خلال الفعاليات المتنوعة في هذه المجتمعات، كما انه من الضروري ان يعتبر الفعل الثقافي كجزء لا يتجزأ من الحياة، وليس كفعاليات متقطعة او منعزلة، تقام بشكل ٍ شهري او موسمي كما هو الوضع الحالي.
4) استثمار الأماكن السياحية : والتاريخية على حد ٍ سواء وذلك عن طريق إقامة العديد من الفعاليات فيها بشكل حداثي وفني وبصري مختلف من جهة، وتنشيطها من الجهة الأخرى، مما يعني تعريف المتلقي بها، وإعادة إحيائها في الذاكرة الجمعية.
5) تفريغ الكتاب والباحثين والفنانين : لفترة زمنية معينة، وذلك بوجود اشتراطات حول طبيعة العمل، ومدته الزمنية وكل التفاصيل المتعلقة به، وهو ما يقودنا الى ضرورة وجود مراكز بحثية ومؤسسات مستقلة من جميع الجوانب: المالية والإدارية، بحيث انها تستطيع القيام بمهمتها والتعاقد مع داعمين لها، بكل حرية، وبعيدا ً عن الجانب الإداري البطيء، وهو ما يؤدي الى تقبُل وجهات النظر المختلفة، تلك التي لا تتفق بالضرورة مع الجانب الرسمي.
إضافة لذلك، يعتبر الاهتمام بالمجال الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة بما يشمل الفنون بمختلف انواعها، وضرورة اخراج هذا الاهتمام من المجال التقليدي في التسويق والعرض للوصول للجمهور، ضرورة لا غنى عنها في مستقبل الدول والشعوب على حد ٍ سواء، فهو يعتبر في الكثير من الاحيان بمثابة صمام أمان للكثير من السلوكيات التي لا تتناسب مع القيم الكونية و الانسانية، كما انه يعتبر دعامة مهمة في الوعي الذي بدوره يساهم في عملية البناء التنموي.
نماذج لمنطق السوق :
ولكي لا تبقى المقترحات المذكورة أعلاه في أعالي النظرية، من الضروري قياس الوضع الثقافي المؤمل على الوضع الاستهلاكي والترفيهي كما هو في السوق المحلي، ذلك ان هذه الامثلة تمنحنا امكانية محاكاة هذا الوضع ، وتطبيقه على الجانب الثقافي مع وجود بعض التعديل والتشذيب التي يقتضيها السياق الحالي :
1) السينما : يوفر لنا القطاع السينمائي في السلطنة نموذجا ً جيدا ً للتنافس، ولوجود سوق جيدة ، للأنشطة الترفيهية والسينمائية ، ذلك ان هذا التعدد في صالات العرض، من الممكن ان يتم تطبيقه على استضافة الكثير من المعارض والمتاحف واقامة صالات سينمائية جديدة ، بأذواق ٍ غير هوليودية ، تتجه للمعرفة، كما انها مؤشر جيد، على قدرة بقاء واستمرارية هذا الجانب في ظل التنافس الواضح في مجال واحد. وبلغة المال نجد ان الاقبال على صالات العرض من الممكن استثماره بشكل ٍ معرفي، ذلك ان متوسط سعر دخول الفرد لكل فيلم سينمائي يصل الى 4 ر. ع، مما يعني بأن الحضور لديه القابلية للدفع والإنفاق في حالة وجود بديل جيد، ومشجع.
2) المراكز التجارية : توفر لنا المراكز التجارية صورة اضافية للإمكانيات التي من الممكن استثمارها او تطبيقها على القطاع الثقافي، فهي (المراكز التجارية) بالرغم من انتشارها الكبير في العاصمة مسقط، الا انها تتميز بالاستمرارية وتحقيق الارباح المتزايدة، وهو ما يتضح في افتتاح الكثير من المراكز التجارية بشكل ٍ مستمر. في هذا السياق، واستمرارا ً لما جاء في النقطة السابقة، نجد ان المستهلك، ينفق الكثير من المال في سبيل الحاجات الاستهلاكية والترفيهية، وهو ما يعني بأننا من الممكن وضع المعرفة وتغليفها وعرضها بطرق جديدة غير مألوفة، جاذبة للاهتمام.
ولأجل ذلك، وبهدف التنافس على الجمهور من الناحية الثقافية، تضع هذه الورقة بعض المقترحات التي ترتبط بما ورد أعلاه، وتحديدا ً بالشكل رقم (1)، فهذه الشركات المنبثقة عن الشركة الأم القابضة (معرفة)، من الضروري لإنعاش الوضع الثقافي المحلي، ان تستضيف بشكل مستمر الكثير من الفعاليات والمقترحات المختلفة، على ان تحقق هامشا ً معقولا ً من الربح بما يضمن لها استمرارية الأنشطة وتطويرها، وذلك بفرض رسوم رمزية معقولة بما يتناسب مع القوة الشرائية للمواطن والمقيم، ففي مجال المسرح ، من الضروري استضافة فعاليات مسرحية مختلفة من جميع الاطياف والتوجهات ، وهي في ذلك تستهدف جانبا ً كبيرا ً من المسارات، على ان تكون في اماكن متوسطة المستوى، ولا تقتصر فقط على منطقة دون الاخرى، بل يتم نشرها على الكثير من المحافظات ذات الكثافة السكانية مع ضرورة التنسيق مع المدارس او الاندية الرياضية المختلفة، ينطبق هذا الأمر ايضا ً على المتاحف، والمعارض التشكيلية المختلفة، ذلك ان هذا التنوع كفيل برفد السوق الثقافي، وتنشيطه، وربما الأهم من ذلك، زرع بذرة الإبداع الحُر في نفوس ووعي المتلقي،والأجيال القادمة. غير ان السؤال التالي يتعلق بكيفية الدعم المالي لإقامة هذه الفعاليات بما يضمن استقلالية المؤسسات شيئا ً فشيئا ً، وفي نفس الوقت عدم استغلالها من قِبل المصالح الشخصية الفئوية و الأجندة الرسمية في الجانب الآخر.
المسؤولية الاجتماعية والتنوير:
لاشك في ان الدعم المالي في الكثير من الأحيان قد يكون هو العامل الرئيسي الموجه في نوعية الأنشطة، وكثافتها، ذلك ان الدعم لهذه الأنشطة ليس مجانيا ً، فالداعم يرغب في الحصول على النتائج، بالطريقتين المادية المباشرة، والمعنوية غير المباشرة، أو طويلة الأمد. ففي حالة وجود المؤسسات الرسمية التقليدية نجد ان المواضيع التي يتم مناقشتها تتسم بالبرود، والجمود، والابتعاد عن مناقشة المواضيع الحساسة والتي تتداخل مع شرائح المجتمع المختلفة، تلك التي تستطيع جذب نسبة كبيرة من المتابعين، وربما نستطيع القول بأنها تتسم بالجانب الشكلي الذي يعتبر في الكثير من الاحيان تحصيل حاصل. غير انه في المقابل، نجد ان المؤسسات الأخرى الربحية تبحث عن المردود المادي دون الاهتمام بالمضمون الى درجة ٍ كبير، وبشكل ٍ خاص اذا اخذنا في الحسبان الاهتمام الشعبوي الكبير في الوقت الحاضر ببعض الأسماء، والشخصيات الاعلامية، التي لا تساهم في تعميق الاختلاف الفكري والفلسفي الجذري، أو طرح المواضيع التنويرية المستقلة، بقدر ما تساهم في جعل المعرفة كنوع ٍ من الوجبات السريعة، التي يتم التهامها في ظرف ٍ زمني وجيز والايهام بالامتلاء.
وللخروج من هذا التأرجح بين الشعبوية التبسيطية المُخلة، وبين الشكلانية التقليدية الممُلة، من الضروري إبراز دور النماذج الوطنية في هذا الشأن من جهة، وتحّمُل المسؤولية الاجتماعية من قبِل الكثير من المؤسسات التعليمية والشركات الكبرى المختلفة في الجهة الأخرى. ففي الجانب الأول (النماذج الوطنية)؛ ومن خلال الكثير من النماذج التاريخية المختلفة، وبعيدا ً عن التركيز على بعض الأسماء دون غيرها، نجد ان هذا الدعم السخي لبعض الأسماء التنويرية، والفكرية، في مرحلة معُينة من مراحل المجتمع، كان بمثابة الواجب الأخلاقي الذي لا يمكن التفريط فيه، فعن طريق هذا الدعم المتعدد الجوانب من الممكن لهذه الأفكار التنويرية ان تزدهر وتترسخ وتنمو في مقابل الكثير من الأفكار المتطرفة، والرجعية، والمنغلقة، الأمر الذي يساهم في تغيير مسار المجتمع، بما يعني التغيير الفكري، وخدمة مصالح الفئات الغنية من جهة، وتغيير وجهتها للجانب الإيجابي.كما انه في الجانب الآخر، فإن دعم المؤسسات التعليمية والشركات الكبرى للبحث العلمي الحُر والمستقل، وتحديدا ً في جانب العلوم الإنسانية والفلسفية، يعُتبر حاسما ً في هذا السياق، فهذه المؤسسات وعن طريق هذا الدعم لبعض الشخصيات بإمكانها تعزيز التنوع الثقافي في البيئة الاجتماعية، كما تساهم أيضا ً في تشكيل مسارات ٍ تخدم المعرفة على المدى الطويل، مما ينعكس بالإيجاب على المخرجات التعليمية والمهنية، الأمر الذي يرفد سوق العمل بعقول نشطة، ومنفتحة، ولا يقتصر فقط على تناسخ موظفين إداريين يؤدون المهام المطلوبة منهم دون أن ينعكس ذلك على السياق الاجتماعي والحضاري للبلد.
في المقابل فإن هذا الجانب الثقافي ليس في متناول اليد، فالتحديات التي يواجهها ليست مالية أو تمويلية بالرغم من عُمق وأهمية هذه الإشكالية ودورها في صعود الكثير من الاهتمامات والتيارات عن طريق دعمها، ودورها أيضا ً في الجانب الآخر في إضعاف بعض التوجهات والتيارات المختلفة، ذلك ان هناك مصاعب وتحديات مؤسساتية، مرتبطة ببعض المواقف الرسمية من المسألة الثقافية وهو ما نتناوله في الفقرة القادمة.
تحديات أمام الحرية الثقافية:
منذ فترة زمنية طويلة لم يعد النظر لمفهوم الثقافة كما هو الحال فيما مضى، حيث تجاوزت الثقافة ذلك المفهوم الماركسي الذي يتأثر بنمط الإنتاج لتصبح هي بحد ذاتها نمطا ً انتاجبا ً مستقلا ً، يستطيع من خلاله الفرد التأثير في المجتمع وتغييره، ذلك ان الثقافة ليست تلك الجانب النخبوي، المتمثل في الندوات الروتينية، والحضور الصامت، كما انها ليست تلك الأفكار والمعتقدات عتيقة العهد، التي تحاول الكثير من المؤسسات والتعريفات على حد ٍ سواء وضعها في صيغة حديثة الشكل، بل أصبحت في العقود الأخيرة تحظى بالكثير من الاهتمام والتقدير من جهة وهذا دليل واضح على أهميتها المتزايدة ، كما انها في المقابل تواجه الكثير من التضييق والقمع من الجهة الأخرى وهو ما يثبت أهمية الفعل الثقافي.
فمع الدراسات الثقافية قفزت إلى السطح الكثير من المواضيع التي تعُتبر مُهمشة، وغير ثقافية لفترة طويلة، بل كان يتم النظر إليها على انها خارج مفهوم الثقافة، وهو ما يعني بأن المفهوم التقليدي للثقافة قد تراجع، وبأننا أمام صعود مفهوم جديد للفعل الثقافي، يتأثر بشكل كبير بالأحداث والمنتجات العالمية المختلفة، وتحديدا ً مع ظهور التلفزيون والموسيقى الشعبية والانترنت وسرعة التبادل الاقتصادي والمعدلات الكبيرة للهجرة، والتدفق البشري الهائل بين الحدود وغيرها من المواضيع والاهتمامات الأخرى، غير ان ثمة تحد ٍ آخر يفرض نفسه بقوة أكثر من أي وقت ٍ مضى، وهو تغوُّل الدولة بشكل ٍ عام في جميع مناحي الحياة، ورغبتها الهسترية وغير المعقولة في فرض الرقابة على كل حركات وسكنات التحركات البشرية المختلفة، وقمع أو التضييق على الاختلافات الفكرية الطبيعية في سياق المجتمع، فالاختلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لم تعد خيارا ً من الممكن التحكم به عن طريق القبول أو الرفض، بل أصبح حتميا ً، لا يمكن إيقافه أو تحجيمه، فهو يعتبر علامة صحية في مسار المجتمعات، وعاملا ً من عوامل الغنى والجذب الثقافي في الكثير من السياقات الثقافية المختلفة، ذلك ان عناصر الجاذبية لا تقتصر فقط على الجانب المالي بالرغم من أهميته، بل – وهذا هو الأهم – بمستوى الحرية المتوفرة في هذا المجتمع، وهذا الحرية ليست السياسية فقط، بل أيضا ً كما سبق القول ترتبط ببعضها البعض في شبكة متراصة، ولا يمكنها الانفصال.

خاتمة: الثقافة والاستثمار المستقبلي
كخاتمة لما ورد سابقا ً، وبعيدا ً عن الشطحات الطوباوية، نستطيع القول بأن الثقافة كتعريف لم تعد تقتصر على الأثريات والتُحف الفنية العتيقة والمخطوطات القديمة كما هو الحال في السابق، بل أصبحت تشهد تغيرات كثيرة من جميع النواحي كالإنتاج والتسويق وغيرها، وهذا يعني بأننا أمام مُنتج كما هو حال بقية المنتجات المستخدمة في الحياة المعُاصرة، تدخل فيه الكثير من العوامل والشروط المختلفة، الأمر الذي يستوجب الكثير من الشروط كالحرية والاستقلالية وتخفيف الرقابة وعدم التضييق والقمع، ذلك ان الثقافة بأشكالها المختلفة لا تنمو في ظل الأجواء الخانقة، فهي رديفة الحرية، وموازية للانفتاح.

--------------
--------------
المراجع:
1) ميلتون فريدمان ، الرأسمالية و الحرية ، تر: مروة عبد الفتاح شحاته ، مؤسسة هنداوي ، ط2 ، 2014م ، ص37.
2) الرأسمالية والحرية، مصدر سابق، ص35.
3) امارتيا سن ، التنمية حرية ، تر: شوقي امين ، عالم المعرفة ، العدد 303 مايو 2004م ، ص10
4) ديفد هارفي ، الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي) ، نقله للعربية : مجاب الامام ، دار العبيكان ، ط1 ، 2008م ، 11.
5) الليبرالية الجديدة، مصدر سابق، ص13.
6) نفس المصدر السابق.


علي سليمان الرواحي