عمّان ـ العمانيةبينما كانت الآليات الثقيلة تشق طريقاً يربط بين العاصمة عمّان ومدينة الزرقاء في عام 1972، تكشّف للعاملين تجمّعٌ سكاني قديم يربض تحت الأرض يضم بيوتاً ومعابد وتماثيل وأدواتٍ أثرية.وما أن تقرّر شَقّ الطريق من منطقة أخرى بعيدة عن الموقع الأثري حديث الاكتشاف، حتى بدأ الباحثون والعلماء يتوافدون في بعثاتٍ أثرية إلى المنطقة التي تسمّى "عين غزال". وفي عام 1982 قادت المسوح والحفريات والدراسات التي أجريت على المنطقة، إلى الكشف عن بقايا قرى زراعية تعود بدايتها إلى النصف الثاني من الألفية الثامنة قبل الميلاد، ووجد الباحثون دلائل على أن السكن في المنطقة استمر حتى منتصف الألفية الخامسة قبل الميلاد؛ أي العصر الحجري الحديث (حقبة ما قبل الفخارية).ومن أبرز الاكتشافات في هذا الموقع مجموعة كبيرة من التماثيل الجصّية (ما يقارب أربعين تمثالاً)، تم نقل بعضها إلى مركز الترميم في معهد الآثار في جامعة لندن، والمجموعة الثانية نُقلت إلى واشنطن، وبعضها عاد إلى الأردن وهي معروضة في متحف جامعة اليرموك الأردنية وفي متحف الأردن، وفي متحف جبل القلعة وسط العاصمة الأردنية عمّان.وقد تطلبت صيانة التماثيل جهداً وخبرة كبيرة، وهي العملية التي وصفها عالم الآثار واللغات الشرقيّة القديمة المؤرّخ الدكتور معاوية إبراهيم الذي أشرف على عملية صيانة التمثالين الموجودين في متحف جامعة اليرموك، بـ"المعقّدة جداً". وحالياً، تتوزع تماثيل "عين غزال" حول العالم، ومن أبرزها التمثال الموجود في متحف اللوفر بفرنسا، لكن هذه التماثيل ينبغي أن تُعرض في بيئة متحفية مناسبة بحسب الدكتور زيدان كفافي عميد كلية الآثار والأنثربولوجيا في جامعة اليرموك، والقائم بأعمال مدير مشروع متحف الأردن، لأن تعرّضها للشمس أو الضوء والرطوبة والحرارة قد يؤدي إلى تلفها بالكامل.ويبدي كفافي تخوفه من طريقة تعامل المتاحف مع هذه القطع النادرة، مؤكداً أن متحف الأردن حاول أن يوجد بيئة مناسبة لعرض هذه التماثيل، لكن متاحف أخرى لم تكن حريصة بما يكفي ولم تراعِ هذا الجانب الحساس في التعامل مع تراث المنطقة، موضحاً أن بعض الآثار يتم التعرض لها بطريقة مسيئة، ومثال ذلك عمليات الجرف التي تمت في موقع عين غزال وطالت مساحة كبيرة لإقامة مدرسة.وإلى جوار التماثيل التي يرجَّح أنها صُنعت لتلبية طقس ديني، لأنها حُفظت بطريقة تدلّ على التقدير والاحترام لها، مع التركيز على اتساع العينين، وُجدت في الموقع دمى طينية تمثل الحيوانات السائدة آنذاك، وفي بعضها غُرزت قطع صوانية بخاصة في منطقة القلب والرقبة والخصر.وبيّنت المسوحات في المنطقة وجود مبانٍ شُيّدت من الحجارة غير المشذبة، وجاءت مستطيلة الشكل وبجدران مستقيمة، وقد رُصفت الأرضيات ثم طُليت بالجبس المدكوك حتى أصبحت ملساء ناعمة، كما استُعملت الخطوط العريضة المتوازية والمتقاطعة أحياناً لتشكل وحدات زخرفية مميزة، وتكوّن عدد من المباني من طابقين؛ استُعمل العلوي للمعيشة والسفلي لخزن المواد الغذائية أو لأغراض الخدمة.وأوضح الدكتور معاوية إبراهيم في محاضرة قدمها مؤخراً بدارة الفنون، أن معبداً صغيراً تم الكشف عنه في موقع "عين غزال"، بما يشير إلى أن التقاليد والطقوس الدينية بدأت تظهر في تلك الفترة، كما كشفت التنقيبات عن أدوات وأوانٍ فخارية بتتابع زمني يؤكد عملية التطور لهذا النوع من النتاج الحضاري، وهذا يدل على الاستمرار في السكن من دون انقطاع في القرى الزراعية بالمنطقة، إذ بدأ الامتداد الأول لها على مساحة هكتارَين ونصف الهكتار، لكنها تطورت فيما بعد لتمتد على مساحة وصلت إلى خمسة عشرة هكتاراً يتراوح عدد السكان فيها بين 2-3 آلاف نسمة.أما المدافن التي اكتُشفت في المنطقة فتؤكد أن طريقة الدفن التي كانت سائدة آنذاك هي دفن الموتى تحت بسطات البيوت في وضعية القرفصاء مع نزع الجمجمة عن الجسد ومعالجتها بالجص ووضع الخرز أو الأصداف البحرية بدلاً من العيون، وقد عُثر أيضاً على مرفقات جنائزية من الخرز المصنوع من الحجارة أو شفرات من الصوّان، ومثال ذلك جسد امرأة عُثر عليه وبداخلها عقدٌ مكوّن من ثلاثين خرزة مصنوعة من عظام الحيوانات.