إعداد ـ مبارك بن عبدالله العامري
لقد امتن الله عزوجل على الإنسان بنعمة اللسان والبيان، قال الله عز وجل:)أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) (البلد 8 ـ 9)، وهذه اللسان من أبرز وأعظم مميزات الإنسان، وكذلك يقول الله عزوجل:(الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن 1 ـ 4).
اللسان وما أدراك ما اللسان .. هو نعمة من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة .. صغير جرمه عظيم طاعته وجرمه .. إذ باللسان يستبان الكفر والإيمان .. اللسان رحب الميدان .. واسع المجال .. هو ترجمان القلوب والأفكار .. آلة البيان وطريق الخطاب .. له في الخير مجال كبير وله في الشر باع طويل .. فمن استعمله للحكمة والقول النافع .. وقضاء الحوائج .. وقيده بلجام الشرع .. فقد أقر بالنعمة ووضع الشيء في موضعه .. وهو بالنجاة جدير .. ومن أطلق لسانه وأهمله .. سلك به الشيطان كل طريق .. ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم .. بل أن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج .. روى الإمام الترمذي وحسنه الألباني عن أبى سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ـ أي تخضع له ـ فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وان اعوججت اعوججنا). ومن أعجب أعضاء الإنسان خَلقاً اللسان الذي جعله الله سبباً للتخاطب بين البشر وبياناً لما في الإنسان من مكنوناته وحاجاته ومشاعره وباللسان يدرك الإنسان معالي الرتب في الدرجات وبسببه يزل في أسفل الدركات، روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:(إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) .. فهل علمت أن الخرس مرض يُصيب اللسان فيُقعده عن وظيفته، ويعطله عن أداء مهمته؟!
أخي المؤمن: هل وقفت يومًا تُخاطب إنسانًا حرم نعمة الكلام، وكتب عليه الخرس؟! هل يمكن أن تفهم منه كل ما يريد؟! .. إنها إشارات يوميء بها، وأنصاف أحرف تخرج لا يعرفها أحد إلا من كان معايشًا له، عليمًا بلغته .. كيف سيكون تعامل هذا المسكين داخل هذا المجتمع الضخم؟!، تصور نفسك ـ أخي المؤمن ـ لو صمت عن الكلام يومًا كاملاً لا تتكلم فيه ولا كلمة واحدة! هل يكون ذلك في استطاعتك؟ فكيف بمن كان عمره كله يقضيه لا يتكلم؟ الحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق، وحقًا .. إننا ننسى كثيرًا من نعم الله علينا، وإن كثيرًا من الناس وللأسف الشديد قد سخروا هذه النعمة في معصية الله فخرجت الغيبة والنميمة، والكلام الفاحش والكذب والافتراء مع علمهم بقول الله تعالى:(وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)، وعن ابي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ـ رواه البخاري ومسلم، قال ابراهيم بن أدهم: الكلام على أربعة وجوه: فمن الكلام كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته والفضل في هذا السلامة منه، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته فأقل مالك في تركه خفة المؤنة على بدنك ولسانك، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته، وتأمن عاقبته، فهذا قد كفي العاقل مؤنته، ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته فهذا الذي يجب عليك نشره.
فليحذر الإنسان من لسانه وليعمل جاهداً أن يكون لسانه قائده إلى الجنة وموصله إلى رضوان الله، فإن كل ما يقول محسوب، إما له أو عليه، قال تعالى:(مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .. وجاء في الحديث أن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال للنبي (صلى الله عليه وسلم):(يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، وقد عرّف النبي (صلى الله عليه وسلم) المسلم الحق الذي استسلم لله ظاهراً وباطناً، فقال:(المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده)، وإن شهوة الكلام من أكثر الشهوات غلبة للناس حتى لا تكاد تجد من يكبح جماحها، وما النجاة إلا لمن وفقه الله فألزم لسانه حدود ما أراد الله تعالى، عن عقبة بن عامر قال:(قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).
فإذا كان اللسان أول أسباب النجاة فانظر إلى واقعنا لتعرف مقدار الناجين ثم لا تعجب ممن هلك كيف هلك ولكن العجب ممن نجا كيف نجا، ولذا فإن الجوارح كلها تعنف اللسان وتوبخه كل صباح وتذكره أن نجاة سائر البدن به إن استقام، وهلاك الأعضاء كلها به إن انحرف.
فالعبد العاقل ينظر في حال نفسه ويراقبها ويربيها على الخير، فكما أنه بحاجة الى ان يتعلم كيف يجيد الكلام اللبق النافع وما هي الأوقات المناسبة التي يحسن ان يتكلم فيها، كذلك هو محتاج الى ان يتعود على الصمت حينما يشعر بأن الكلام سيجرُّ عليه اثماً أو عداوة أو انتقاصاً لعقله وقدره، فكل مقام له مقال، وقد كان السلف على ما بهم من حرص في كلامهم يتهمون ألسنتهم، وروي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رأى أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وهو يمد لسانه بيده، فقال له: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟! قال: هذا أوردني الموارد، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته) .. فهل نحن عن آفات اللسان منتهون ولشهوة اللسان كابحون ولما يرضي ربنا طالبون؟.