رقة القلب نعمة وهبة من الله فهو سبحانه الذي يهب رقة القلوب وانكسارها ويتفضل بخشوعها وإنابتها إليه القلوب اللينة الرحيمة الوجلة هي القلوب الصالحة القريبة من الله، التي تخشع إذا سمعت القرآن يتلىإعداد ـ مبارك بن عبدالله العامري:رقة القلوب مطلب من مطالب الصالحين، ومنشد للطامحين إلى رضوان رب العالمين فإن القلب هو وعاء الإيمان، وقوام صلاح جسم الإنسان فكلما كان منيعاً قوياً كان صاحبه قوياً، وكلما هزل وضعف صار صاحبه هزيلاً ضعيفاً، وإنما يكون القلب صالحاً إذا كان منورّاً بنور الله ـ جلّ وعلا ـ ومكسوّاً بلباس التقوى والورع، فتظهر عليه حينئذ علامات الرقة والصلاح فلا ترى صاحبه إلا رحيماً رقيقاً، خاشعاً خاضعاً، سباقاً إلى الخير والفضل، تواقاً لكل بر ومعروف، وأن رقة القلب نعمة وهبة من الله، فهو سبحانه الذي يهب رقة القلوب وانكسارها، وهو سبحانه الذي يتفضل بخشوعها وإنابتها إلى ربها وإذا شاء قلَبَ هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عزَّ وجلَّ، وأخشع ما يكون لآياته وعظاته، ومن علامات رقّة القلب أن يكون صاحبه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، ووجد فيها راحته ونعيمه وقرّة عينه وسرور قلبه، وسبحان الله! نحن الواحد منا إذا دخل في الصلاة تذكّر أمور دنياه، وما هذا إلا لقسوة في القلب.علامات رقه القلبومن علامات رقه القلب أن صاحبه إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات وجد لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله ودنياه، ومنها أن صاحبه يخلو بربّه فيتضرع إليه ويدعوه، ويتلذّذ بين يديه سبحانه، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه: اطلب قلبك في مواطن ثلاثة: عند سماع القرآن، وعند مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده فسَل الله قلبًا، فإنه لا قلب لك، ولعلنا نسأل أو نتساءل: من أين تأتي رقة القلوب وانكسارها وإنابتها إلى ربها؟! ومن الذي يتفضل عليها بإخباتها؟! إنه الله سبحانه وتعالى، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه، يقلبها كيف يشاء، كما قال (صلى الله عليه وسلم):(قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه) ـ رواه الطبراني والحاكم وصححه، فإذا أرسل الله سبحانه على القلب رحمة فإنها تتغلغل فيه، وتحوّل ذلك القلب من القسوة إلى الرقة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن البعد عن الله إلى القرب منه سبحانه، فبعدما كان العبد جريئًا على التفريط في جنب الله، متساهلاً بأوامر الله، فإذا به يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يعرف لله حقوقه، وينفر من عصيانه، ويخشى عقابه، ويرجو ثوابه.إن رقه القلب هي النعمة التي ما وجدت نعمة على الأرض أجل وأعظم منها، وما من قلب يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله، قال تعالى:(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر ـ 22)، لذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر: كيف أرقّق قلبي لذكر الله ومحبة الله؟!.أنّ لرقه القلب أسبابًا وسبلاً، أولها: الإيمان بالله فما رقّ قلب بسبب أعظم من الإيمان بالله، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا رقّ قلبه وصفت سريرته، فلا تأتيه الآية من الله والحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم( إلا قال بلسان حاله ومقاله:(سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) )البقرة ـ 285).أسباب لين القلوبإن القلوب اللينة الرقيقة الرحيمة الوجلة هي القلوب الصالحة القريبة من الله، التي تخشع إذا سمعت القرآن يتلى، فتنتفع بالذكرى، وتزداد من الهدى، وتشتمل على التقوى، وتلكم هي القلوب المرحومة التي تحرم أجسادها على النار، وتفتح لها أبواب الجنة، ونعم دار المتقين الأخيار.فخذوا عباد الله بأسباب لين القلوب، واسألوا الله أن ينفعكم بها، فيلين قلوبكم حتى ترحموا، وعلى النار تحرموا، وبلقاء ربكم وجنته تفرحوا: 1 ـ إن تلاوة القرآن واستماعه رغبة في الهدى، وطلبًا للزلفى، من أعظم أسباب لين القلوب ورقتها، قال تعالى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق ـ 37)، وقال تعالى:(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الزمر ـ 23).2 ـ تعلم العلم الشرعي من القرآن والسنة الذي يعين على المعرفة بالله تعالى وتوحيده: فمن عرف ربه حق المعرفة رق قلبه، ومن جهل حق ربه قسا قلبه، ولا يكون القلب قاسياً إلا إذا كان صاحبه من أجهل العباد بالله عز وجل وبحقه في التوحيد وإخلاص العبادة له عز وجل، وكلما عظم الجهل بالله وبحقوقه كان العبد أكثر جرأة على حدوده ومحارمه، وكلما وجدت الشخص يديم التفكير في ملكوت الله، ويتذكر نعم الله عليه التي لا تعد ولا تحصى، وجدت في قلبه رقة.3 ـ النظر في آيات القرآن الكريم: والتفكر في وعده ووعيده وأمر ونهيه، فما قرأ عبد القرآن وكان عند قراءته حاضر القلب مفكراً متدبراً إلا وجدت عينه تدمع، وقلبه يخشع، ونفسه تتوهج إيماناً من أعماقها، وما تلا عبد القرآن حق تلاوته أو استمع إلى آياته إلا وجدته رقيقاً قد خفق قلبه واقشعر جلده من خشية الله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، وقال تعالى:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).4 ـ تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها: والجنة وما أعد الله فيها للطائعين من النعيم المقيم، والنار وما أعد الله فيها للعاصين من العذاب المقيم، فإن ذلك يذهب الغفلة عن القلوب، ويحرك الهمم الساكنة والعزائم الفاترة، فتقبل على ربها إقبال المنيب الصادق، وعندها يرق القلب.5 ـ زيارة العلماء الربانيين الصالحين وصحبتهم ومخالطتهم والقرب منهم: فهم يأخذون بيدك إن ضعفت، ويذكرونك إذا نسيت، ويرشدونك إذا جهلت، إن افتقرت أغنوك، وإن دعوا الله لم ينسوك، قال تعالى:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).6 ـ محاسبة النفس: فإن الإنسان إذا لم يحاسب نفسه ويعاتبها وينظر في عيوبها، ويتهمها بالتقصير لا يمكن أن يدرك حقيقة مرضها، وإذا لم يعرف حقيقة المرض فكيف يتمكن من العلاج؟! لهذا لا بد من تذكير النفس بضعفها وافتقارها إلى خالقها، وإيقاظها من غفلتها، وتعريفها بنعم الله عليها، ومراقبتها ومحاسبتها على كل صغيرة وكبيرة حتى يسهل عليه قيادها والتحكم فيها.7 ـ العطف على الفقراء والمساكين والأرامل والمسح على رأس اليتيم.8 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.9 ـ بر الوالدين والإحسان إليهما.10 ـ الدعاء والإلحاح على الله سبحانه.11 ـ ومن أعظم ما يلين القلوب ويذهب قسوتها ذكر الموت، وشهود الجنائز، وزيارة القبور، قال (صلى الله عليه وسلم):(أكثروا ذكر هادم اللذات)، وجعل الصلاة على الجنازة وتشييعها إلى المقبرة من حقوق المسلم على أخيه لما يترتب عليها من لين القلب، والتزهيد في الدنيا، وقال (صلى الله عليه وسلم):(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).12 ـ ومن أعظم ما يلين القلوب كثرة ذكر الله، وحضور مجالس الذكر؛ فإنها تجلو عن القلوب صداها، وتذكرها بحقوق مولاها، وتحرضها على شكر نعماها، والتوبة إلى الله من خطاياها، قال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد 28 ـ 29).13 ـ ومن أعظم أسباب لين القلوب زيارة المرضى، ومخالطة المساكين والفقراء والضعفاء، والاعتبار بحال أهل البلاء، ولهذا قال تعالى:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف ـ 28)، وقال (صلى الله عليه وسلم):(انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم).14 ـ وأسباب لين القلوب ورقتها كثيرة، وهي بحمد الله محبوبة ميسورة، ومن أهمها: أكل الحلال، والتقرب إلى الله بنوافل الأعمال، والإلحاح على الله بالدعاء، والعطف على المساكين والأيتام والضعفاء، والرحمة بالحيوان، ومجالسة أهل العلم والإيمان، وكل ذلك بحمد الله من أبواب الخير وخصال البر، من تحرَّاها وجدها ومن أخذ بها حمدها .. فاتقوا الله وتحروا ما يلين قلوبكم ويحييها، واحذروا من كل ما من شأنه أن يظلم بصيرتها ويقسيها؛ فإنكم إلى ربكم منقلبون، وبأعمالكم مجزيون، وعلى تفريطكم نادمون:(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء ـ 227).