- التقديم والتأخير عمليتان متلازمتان لا تقع الأولى إلا بالثانية والعكسعلي بن سالم الرواحي:إنّ التنوع في التصوير دلالة على بلاغة المصوِّر وعلمه بالمصوَّر, ونرى في اسلوب القرآن الكريم طلاقة البيان, وأن الكلمات مخضوعة كلها للقائل, كيف لا وهو كلام الله العزيز المنان, الذي أحاط بكل شيء علماً, ومن فنون التصوير التقديم والتأخير, ولا غرو إن وجدناه في القرآن الذي هو أصل العلوم كلها, وهذا الفن مندرج تحت قسم المعاني في البلاغة.المقدَّم أهم من ذكر المؤخرإن التقديم والتأخير عمليتان متلازمتان لا تقع الأولى إلا بالثانية والعكس, وهما تقديم ما أصله التأخير, وتأخير ما أصله التقديم, أو تقديم شيء على آخر أو تأخيره عليه, وذلك للتنويه على أن ذكر المقدَّم أهم من ذكر المؤخر وهو منوط بفوائد جليلة, ومثال الأول (سقى زيد ماءً عمروً),أصله (سقى زيد عمروً ماءً), فركَّز القائل اهتمامه على (ماء), وقلّل من اهتمامه بـ (عمرو), ومثال الثاني (رأيت محمداً وخالداً وماجداً) فقدم محمداً للاهتمام به.* أنواع التقديم والتأخيريقسم التأخير والتقديم إلى صنفين من ناحية الإعمال النحوي بين المقدم والمؤخر, الأول أن يكون المقدم معمولاً للمؤخر, والثاني أن يكون المقدم غير معمول للمؤخر, مثال الأول:(أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُم) (هود ـ 8) فـ (يوم) ظرف زماني عامله (مصروفاً), والسر في ذلك هو التلويح بأن العذاب آت لا ريب فيه في وقته المقدر له, ومثال الثاني:(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الرحمن ـ 33), وقوله تعالى:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء ـ 88), فقدم في الآية الأولى الجن على الأنس مع إن الإنسان أشرف وذلك لأنهم أقوى منهم, وقدم الأنس على الجن في الآية الثانية لأنهم أعقل وأكثر تفكراً منهم وأكبر شرفاً، وهنا تقسيم آخر بحسب حصول إشكاله فيه, فالأول ـ وهو الأخطر ـ ما اشكل معناه في ظاهره فإذا عُرِف الموضع الأصل, زال الإشكال.المثال الأول:(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(التوبة ـ 55), فهل التعذيب مقصور زمانه على الحياة الدنيا, هنا إشكال لكن إذا علمنا أنه وقع تأخير في الكلام ويقدر: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا, انتهى الاشكال، والمثال الثاني:(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (طه ـ 129), وفي الآية حذف تقديره:(لكان عقاب لزاماً), والاشكال في هل (أجلٌ مسمى) معطوف على (عقاب) والإجابة أن المعنى لا يستقيم إذ أن الأجل شرط لوقوع العقاب, فإذا عُلِم أن تقدير الكلام: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى, زال الإشكال, فيكون المعنى لولا قضاء الله في تأخير العذاب عنهم وجعل وقوعه في وقت معين للزمهم العذاب بلا تأخير.والنوع الثاني: ما وضح معناه:المثال الأول:(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) (طه ـ 70), فالأصل تقديم موسى لأنه أكبر منزلة من هارون, وكان التقديم والتأخير مراعاة لفواصل الآيات, ويسمى أيضاً هذا المثال بترتيب الفئات، والمثال الثاني: قوله تعالى:(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) (البقرة ـ 58), وقوله تعالى:(وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)(الأعراف ـ 161) وهذا المثال من باب تقديم شيء على شيء آخر في آية ثم مجيء العكس في آية أخرى, أو تكرر الآية أو بعضها مع اختلاف ترتيب الكلمات أو الجمل، والمثال الثالث:(وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت ـ 15), والأصل: يجحدون بآياتنا, هو ترتيب الكلمات على غير الترتيب النحوي, أو تقديم المعمول على عامله أو متعلِّق على متعلَّقه.