سوف ننطلق في حديثنا عن السرد من المفهوم الاصطلاحي الحديث له، وليس من المفهوم المعجمي اللغوي، خاصة إذا كان السرد مرتبطاً بأجناس السرد الحديثة، كالرواية، مثلاً.
ذلك أن مصطلح السرد حظي ـ ولا يزال ـ بعناية جماعة كبيرة من النقاد الأوروبيين، خاصة، وارتبط منذ البداية بالمنهج البنيوي الشكلي، في منتصف الستينيات وأوائل السبعينيات، من الألفية السابقة، وانقسم النقاد فيه إلى تيارين أساسيين، أحدهما تيار السردية الدلالية على النصوص الحكائية المروية مشافهة والمدونة في كتب الموروث الشعبي الحكائي.
أما التيار السردي الثاني الأكثر حداثة وارتباطاً بالنصوص الروائية، مثلاً، فهو تيار السردية اللسانية لدى كوكبة من النقاد الفرنسيين، على وجه التحديد، وأبرزهم ستيفان تودروف وجيرار جينيت ورولان بارت وغاستون باشلار وجوليا كريستيفا... وسواهم.
وفي هذا التيار السردي اللساني استطاع النقاد أن يفيدوا من علم اللسانيات عند مؤسسيه، وأبرزهم (دو سوسير) وأن يربطوا نظرية الشعرية الحديثة أو البوطيقيا (poetics) بالمنهج البنيوي الشكلي، فيقولوا اختصاراً (الشعرية البنيوية) إشارة إلى أن مقولاتهم في تلك النظرية الحديثة هي بمثابة الجانب العملي للمنهج البنيوي الذي يُعنى من جهته بوصف جماليات النص الروائي، ومن تلك الجماليات التقنية أو اللعبة الفنية التي تنطلق من العناصر الفنية المكونة لبنية السرد الروائي.
ومن هنا يمكننا القول: إن مفهوم السرد الروائي من وجهة نظر (الشعرية البنيوية) – إذن- يعني: الطريقة أو الكيفية التي تحتاج إلى راوٍ ينقل المروي إلى المروي له وهو جهاز استقبال النص الروائي ونقصد به (المروي له)، مع ملاحظة أن الراوي بالمفهوم البنيوي له، ليس بالضرورة، أن يكون المؤلف. ذلك أن الراوي ، باتفاق النقاد على مفهومه، هو كائن من ورق، أي شخصية مصنوعة من المتخيل السردي. ولذلك يفرِّق نقاد السرد بين مصطلحين، هما: مصطلح الشخص ومصطلح الشخصية، أما الأول فيعني المؤلف، باعتباره الشخص، بل الأديب الذي كتب الرواية ونشرها ثم لم يعد له صلة بهذا (المروي) بعد أن صار مُلكا لقرائه، ومن هنا جاء شعار (موت المؤلف) داخل نصِّه وعدم حضوره المكشوف فيه. فحضوره أصبح قناعاً فنياً يتستر خلفه وهو يقدِّم لنا عالمه الروائي المصنوع من ورق الكتابة. وأما الشخصية فعنصر فني يقع ضمن بقية العناصر الفنية المكونة لبنية السرد الروائي. كعناصر اللغة والزمان والمكان والحدث والحوار ... الأخرى.
ولذلك يُعد الراوي، هو المعني بداية بتعريف النقاد له بأنه كائن مصنوع من ورق الكتابة في الرواية التي ما هي إلا متخيلٌ سردي. ولذلك لا يمكن للراوي في النص السردي أن يكون (حسب ما ينبغي) صورة طبق الأصل من البشر أو الأشخاص المخلوقين من لحم ودم، باتفاق النقاد. إنه ـ أي الراوي ـ شخصية مصنوعة من لدن المؤلف الذي خلق نموذجه الفني بعد أن مرَّ بمراحل من الاختيار والانتقاء لصفات مجموعة من البشر المنتمين إلى زمنه أو إلى الأزمنة التاريخية والاجتماعية والثقافية ماضياً وحاضراً، مضيفاً في رسمه لتلك الشخصية أو الشخصيات صفاتٍ مستوحاة من خياله الفني وليس مقتصراً على مجرَّد مخزونه الثقافي الحاضر في ذهنه لحظة الكتابة، مثلاً، والأمر نفسه حين يصف لنا ويروي عن عالمه الحكائي في كامل البنية السردية، جاعلاً من الراوي شخصية ورقية تحكي من زاوية رؤيتها السردية، سواء أكانت هذه الرؤية كلاسيكية أم حديثة أم جديدة، كما سيأتي الحديث عن هذه الاتجاهات الأدبية، حسب تقسيمنا لها في علاقتها بتقنية الراوي، تحديداً، وفي انعكاس رؤاها السردية على العناصر الفنية الأخرى المكونة معها بنية السرد الروائي.
ولأهمية شخصية الراوي اعتنى نقاد السرد كثيراً بالرؤية السردية التي ينطلق هذا الراوي منها في نقل عالمه الروائي إلينا. الأمر الذي أدى إلى تعدد المصطلحات المرادفة لمصطلح الرؤية السردية بتعدد الدراسات والترجمات إلى اللغة العربية، خاصة، من قبيل: وجهة النظر point of view وزاوية الرؤية، والمنظور، وحصر المجال والموقع ... بتفاوت نسبي في المفهوم بين المصطلح والآخر.
ولذلك أيضاً ظهرت أنواع مختلفة من الرؤى السردية، أبرزها الرؤية الخارجية (الكلاسيكية والجديدة) والرؤية الثنائية والرؤية المتعددة، وهي رؤى تنقسم لدينا إلى رؤى رئيسة، هي الرؤية الخارجية (الكلاسيكية) والرؤية الداخلية (الحديثة) والرؤية الخارجية (الجديدة) التي قسمناها كذلك بحسب الاتجاهات الأدبية ذات الصلة بها، والتي سنتوقف عندها على النحو الآتي:

أولاً: الرؤية الخارجية ذات الاتجاه الكلاسيكي. وتنطلق من الراوي (كلي العلم) الذي تصفه سيزا قاسم باعتباره الراوي المحيط علماً بالظاهر والباطن والذي يقدّم مادته دون إشارة إلى مصدر (معلوماته) مادام راوياً كلي العلم، أي عليم بشكل مطلق بعالم روايته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، يستطيع أن يسمع بما يدور بخلد شخصياته الروائية، أو بحسب تعبير سيزا قاسم وهي تصفه بقولها: فكأنه ينتقل في الزمان والمكان دون معاناة ويرفع أسقف المنازل، فيرى ما بداخلها وما في خارجها ويشق قلوب الشخصيات ويغوص فيها ويتعرف على أخفى الدوافع وأعمق الخلجات..إلخ. وهو مع ذلك شخصية غير مشاركة في عالمها الروائي، لكنها وهي تحكي عن ذلك العالم شخصية يمكنها أن تتدخل في العمل الروائي بالتعاطف مثلاً مع إحدى الشخصيات أو بالانحياز أو بالتفسير أو بالتعليق أو باستشراف مستقبل شخصياتها إلى الحد الذي دفع النقاد إلى وصفها بالإله (مجازاً) لقدراتها الخلاقة وعلمها المطلق، مستعينة في كل ذلك بضمير الغائب (هو) غالباً.

ثانياً: الرؤية الداخلية ذات الاتجاه الحديث، حيث تنطلق من الراوي محدود العلم، الذي يطلق النقاد على رؤيته بالرؤية المصاحبة أو المشاركة أو (الرؤية مع). ذلك أن الراوي فيها يبدو مشاركاً في الأحداث الروائية وإحدى الشخصيات الروائية، لكنه محدود العلم، يعرف ما تعرفه الشخصيات الأخرى ويجهل ما تجهله، لذلك هو شخصية تتساوى مع الآخرين مستعينة في الغالب بضمير المتكلم الذي يحاول الراوي إقناعنا من خلاله بأننا بصدد سيرة ذاتية في حين أنه ليس بالضرورة أن يكون الراوي هو المؤلف، بل إنه قناع فني يتستر خلفه هذا المؤلف لإقناعنا بواقعية ما يرويه من أحداث وما يتم من علاقات. إلخ.
ولذلك ينطلق هذا الراوي الداخلي مما يسميه النقاد بأسلوب السرد الذاتي subjective في حين ينطلق الراوي الخارجي الكلاسيكي من أسلوب السرد الموضوعي objective. ولذلك اعتبرنا الاتجاه الذي تنتمي إليه الرؤية الخارجية السابقة بالاتجاه التقليدي، وأطلقنا مصطلح الاتجاه الحديث على هذه الرؤية الداخلية التي تجدر الإشارة إلى أنه يستعين كثيراً بتقنيات الرواية التي تنتمي إلى تيار الوعي واللاوعي الحديثة، وأبرز تقنياتها كالتذكر والمونولوج، مثلاً.

الرؤية الخارجية ذات الاتجاه الجديد
برأينا تتفق هذه الرؤية مع الرؤية الخارجية الكلاسيكية في أن كلاً منهما غير مشاركة في صنع الحدث وفي شرط الموضوعية، غير أن هذه الثانية موضوعية تماماً، حيث لا يتدخل الراوي فيها وفي عالمه الروائي ولا ينحاز ولا يعلق ولا يفسِّر ولا يتعاطف، وكل ما يقوم به هو رصد وتسجيل المشهد الماثل أمام عينيه اللتين تغدوان مثل الكاميرا السينمائية وهما تلتقطان بالصوت وبالصورة المشهد الماثل أمامهما التقاطاً آلياً وخارجياً ومحايداً. لذلك يُسمَّى الراوي في هذا النوع من الكتابة: الراوي غير الظاهر وأحياناً الراوي الشاهد الذي يتجلَّى دوره في مجرد الشهادة والذي تحدد يمنى العيد دوره بمجرد الشهادة : شهادة الكتابة على زمنها، على واقعها الثقافي، حيث، في هذا الزمن الذي تغيرت هويته التاريخية، واختلف واقعه الثقافي تراجع أثر الكاتب وضمرت فاعلية الكتابة. والتراجع ليس تلقائياً، بل هو قائم في إطار الشعور بهيمنة السلطة السياسية وقوة حضورها في الثقافي، أو قدرتها على الإمساك بالثقافي. ولذلك اعتبرنا هذا الراوي الشاهد منتمياً إلى ما أطلقنا عليه بالاتجاه الجديد أي الأكثر حداثة عن الراوي الداخلي ذي الاتجاه الحديث، مثلاً.
وفي هذا الصدد، نود الإشارة إلى ثلاث تقنيات سردية ذات صلة بنيوية بأقسام الرؤى السردية الثلاث واتجاهاتها الأدبية من وجهة نظرنا، هي على التوالي:

1- الصورة الوصفية التي يطلق عليها جمهور النقاد اسم (الوقفة) أو (الاستراحة) ويرون أنها منقطعة عن سيرورة الزمن السردي ومضيه قدماً، إلى الحد الذي يمكن معه أن لا تقرأ القطعة الوصفية، بل يمكنك أن تقفز عليها بهدف متابعة إيقاع الحكي، عدا جيرار جينيت الذي نتفق معه وهو يعطي للصورة الوصفية بعداً تأملياً من شأنه أن يجعلها زمنية وليست وقفة منقطعة عن سيرورة الزمن السردي.

2- الصورة السردية وهي كما ترى سيزا قاسم ذات طبيعة متحركة على العكس من الصورة الوصفية ذات الطبيعة السكونية في رأيها والذي يؤيده معظم النقاد. في هذه الصورة تتواشج أفعال الحكي مع الألفاظ الدالة على الوصف (لكن ليس بالمعنى النحوي) تواشجاً يصعب معه الفصل بين الإثنين (الأفعال + الوصف).

3- الصورة السينمائية وهي الصورة التي تكون فيها عينا الراوي بمثابة كاميراً خارجياً، محايداً، موضوعية، ذات وظيفة آلية، كما أشرنا إلى ذلك. ونضيف أن المشهد الذي تصوره عينا الراوي هنا يعتمد على ما يُسمَّى في السينما باسم المونتاج (تركيب الصور) الذي يقوم به المخرج وهو خارج المشهد الماثل، تماماً. ولذلك أطلقنا عليها اسم (الصورة السينمائية) ذات الاتجاه الجديد، في تصورنا.
هذه هي الصور الثلاث ذات الصلة بالرؤى السردية الرئيسة، نختتمها بالحديث عن الرؤيتين الفرعيتين الآتيتين:
1- الرؤية الثنائية وهي الرؤية السردية التي تجتمع في نص روائي واحد، كأن تجتمع الرؤية الخارجية الكلاسيكية مع الرؤية الداخلية في النص الروائي الواحد، وتتواشجان بنيوياً مؤدية على امتداد الرواية وظيفتها البنيوية.
2- الرؤية المتعددة، وهي الرؤية التي يظهر من خلالها أكثر من راوٍ، كل يروي عن نفسه بنفسه، أو يظهر فيها راوٍ واحد يروي الحدث بأكثر من زاوية سردية.
وأخيراً يبقى أن نشير إلى أننا في مجال السرد الروائي نجد تقنيات سردية تنتمي إلى هذا الاتجاه أو ذاك، من قبيل تقنيات التلخيص والحذف والتذكر والاستشراف والمشهد والوصف، وهذه الأخيرة قد تحدثنا عنها بإيجاز ويبقى أن نمر مثلاً على التلخيص والحذف، فالتذكر والاستشراف، فالمشهد، على النحو الآتي:
أما التلخيص فذلك حين يوجز الراوي أحداثاً روائية طويلة في أسطر معدودات، أو يلخص السيرة الذاتية لإحدى الشخصيات كذلك، مشيراً بعبارات زمانية تسبق التلخيص أو غير مشير ومكتفٍ بأن التلخيص مفهوم يقع ضمن سياق السرد ويؤدي إلى تسريع حركة السرد الروائي حتى لا يكون السرد مملاً وبعيداً عن الأحداث الواقعة في حاضر الزمن السردي.
وأما الحذف فذلك حين يحذف الراوي أحداثاً وقعت في فترة زمنية مشيراً إليها بعبارات مختلفة من قبيل (ومرت سنوات)، (وبعد أعوام) ربما لعدم أهمية سرد تلك الأحداث. وبذلك يسهم الحذف في تسريع حركة السرد.
ويبقى أن نشير إلى تقنيتين، هما التذكر والاستشراف، التذكر (الفلاش باك) تقنية من تقنيات تيار الوعي الحديث، حينما تؤدي بتوظيفها فنياً إلى تكسُّر الزمن السردي في وحدات السرد ذات البداية والوسط والنهاية. والتذكر ثلاثة أنواع تقسمها سيزا قاسم إلى:
1- استرجاع (تذكر) الخارجي ويقع قبل بداية الحاضر السردي.
2- استرجاع داخلي، ويقع بعد بداية الحاضر السردي.
3- استرجاع مزجي ويقع من خلال التناوب بين الاسترجاعين السابقين، على امتداد الرواية.
وأخيراً يمكننا أن نجد الاستشراف الذي يعني أن يعلن الراوي عن أحداث قبل وقوعها وتحققها. وهي تقنية توجد في الرواية ذات الاتجاه، التقليدي يقابل الاستشراف تقنية أخرى في الرواية الحديثة وهي تقنية (التوقع) وذلك حين يتوقع الراوي (أو إحدى الشخصيات الروائية) أحداثاً يمكن أن تتم لاحقاً دون أن يؤكد الراوي مدى تحققها، فقد تتحقق بعدئذٍ وقد لا تتحقق، محافظاً بذلك على عناصر المفاجأة والتشويق والإمتاع الضرورية في مجال الإبداع الروائي.
هكذا .. نفهم السرد الروائي مرتبطاً بالاتجاهات الأدبية التقليدية والحديثة والجديدة (برأينا) وغير مستقل عن تناول أبرز تقنياته المنطلقة من العناصر الفنية المكوِّنة لبنيته الداخلية.

أ.د. آمنة يوسف