إن كارل مور يتابع طريقه "فالحياة كلها ـ على رأيه ـ مكسب للصوص، ولأن الآخرة تهديد مروع لهم، وللصوص الحق في الارتقاء أمام الموت"، إنّه يتابع طريقه، ولكنه من الداخل مسلوب ومنهوب تمامًا، عار حتى من يقين سابق، سوى القرار الذي اتخذه في نهاية المطاف، ليكرس القانون وحياة الجماعة، وليعيد الحق إلى صاحب الحق في القصاص: "يا لي من أحمق حين اعتقدت أنني سأصالح العالم بفظائعي، وسأحافظ على القوانين بالفوضى، كنت أسمي هذا انتقامًا وحقًّا وكنت أتفاخر،[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]منذ أثار مارتن لوثر Martin Lunther " 1483-1546" زوبعة في الضمائر وحرّك ألسنة الفلاحين وأيديهم، وليس منذ ألقى الكونت ثورن زعيمُ المعارضة البروتستانتية، مستشاري الملك فرديناند، خلف ماتياس، من نوافذ قصر رادكاني في براغ (23 أيار 1618) وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى (18 يناير 1918) والمعارك شبه مستمرة بين الأوروبيين. تثيرها الاندفاعات المذهبية، والمصالح، ووراثة العرش، والدفاع عن الحريات، وصراع الطبقات. وطوال ثلاثمئة سنة، بين بداية حرب الثلاثين عامًا ونهاية الحرب العالمية الأولى، شهدت أوروبا آلامًا، ومخاضًا رهيبًا، توقّف ليُستأنَف على صعد أخرى، ولأسباب أخرى، في الحرب العالمية الثانية، كما شهدت تقدمًا فكريًّا وأدبيًّا وتقنيًّا كبيرًا جدًّا.وربما كان تأثير حرب الثلاثين عامًا، على الشاب يوهان كريستوفر فريدريك شيللر، أكثر وضوحًا واستمرارًا من تلك الحرب التي وُلد إبّان اشتعال نارها، حرب السنوات السبع 1756-1763. وحين استنشق الفتى أول دفقة هواء من الطبيعة مباشرة، في العاشر من تشرين الثاني "نوفمبر" 1759 في قرية مرباخ Marbach جنوب ألمانيا، وكان في ما يشبه الثكنة أو ساح القتال، حيث كان أبوه يشارك، حسب اختصاصه، في المعارك التي كانت تدور في بوهيميا، بين فريدريش ملك بروسيا "1712-1796" وبين النمسا. ورافق شيللر أسرتَه في ارتحالها وتنقلها المتصل بعمل الوالد في الجيش، ولم يفلح شيللر الأب، في أن يبعد ابنه عن الجيش، وفشلت أهدافُه في تخريج ذلك الفتى الموهوب قِسًّا، بينما نجح كارل يوجين Karl -Eugin في ضم يوهان إلى مدرسته، مدرسة كارل، ليدرس القانون ثم الطب، وليخدم في الجيش. وكان حبُّ المسرح هو الذي أنقذ شيللر من حياة الجندية، وعلى الرغم من أن ذلك الحب حمّله مسؤوليات وتبعات وتضحيات، إلا أنه أنقذ روحه في النهاية، ووضعه في الطريق التي تليق بمبدع فياض بالعطاء، وخلده على الزمن.لا ينصرف اهتمامي هنا إلى رصد وقائع حياة شيللر 10/ 11/ 1759 إلى 9/5/1805، ولكن يبدو لي أن السنوات الأولى التي قضاها في قرية لورشLorch برعاية القسيس موزر Moser وتلك التي كانت له في المدرسة اللاتينية الدينية، ليتخرج قسيسًا ـ الأمر الذي لم يتم ـ هي التي كوّنت نسيجَه الأخلاقي والروحي، أو وضعت أساس ذلك النسيج، وليس في حركة التنوير Aufkarung وعند ليسنغ "1729-1781 Gottholdephraimlessing " بالدرجة الأولى، ولا نجد مقومات ذلك النسيج أو بذوره في العاصفة والاندفاع، أو العاصفة والزحف Sturmunddrang عند هردر " 1744-1803" Johann GottriedHerder " أو كلينجر " 1752- 1831 F.M.Klinger " حصرًا، وإنما نجدها عند مارتن لوثر أساسًا، صاحب انطلاقةِ حركة التنوير الأولى، والصدامي الأول في تلك الامتدادات الجغرافية والزمانية. وإذا كانت العقول الألمانية قد أنضجت وطورت وفلسفت تلك النظرات اللوثرية، وتجاوزت ما فيها من إدانات للإنسان، ومن التهام الخطيئة له، وأنضجت فلسفات ومبادئ علمنة، فإنها إنما سارت في الطريق التي فتح بابها عمليًّا لوثر، وإن كان هناك علماء قبله فكّروا، فإنهم، عندما نفَّذ، تخلوا عنه وأدانوه.في شيللر نجد تفاعلًا حيًّا، أو قل تكاملًا ظاهرًا يخفي تفاعلات داخلية بناءة، بين حركة التنوير والعاصفة، والقوة، والورعية Pietisme التي جاء بها سبنرSpener بين الاندفاع الرومانسي والتوازن الكلاسيكي، بين انطلاقة الحرية والثورة، وما يستدعيه قيام نظام الدولة، وأمن الناس، والعدل والحق الذي حفظته الشرائع والقوانين، وبين الفردية النامية ومقوماتها وطموحاتها، ودعوى الذوبان في الجماعة والتنازل لها عن كل شيء، وبين القدرية بمفهوم الاستسلام والإخلاص للرب بتحقيق عدله وإرادته بقوة الإنسان.كانت هذه البوتقة من الأفكار والنظريات والمعطيات تنضج على نار الواقع، وتتفاعل مع معطياته هو في تماسّه مع محيطه، ولذا فإنه من الخطأ محاولة عزل تلك المعطيات عن وقائع الحياة في المقاطعات الألمانية التي بلغت ثلاثمئة ولاية متنازعة على الأغلب، ولا عزلها عن الفقر والظلم والجوع الذي يعيشه الفقراء والفلاحون على الخصوص في جنوب ألمانيا، ولا عن الصراعات ذات الطابع القومي التي فتحت أمامها البروتستانتية والفلسفة والثقافة والسياسة، مجالات عديدة للظهور، أو للتعبير عن ذاتها.ولذلك أجد أمامي، أينما تحركت في عالم شيللر، التضاريسَ التالية التي تحدِّد عالمه:١ - مارتن لوثر وتعاليمه وثورته وصموده.٢ - مطالب ثورة الفلاحين المكتوبة عام 1525، التي لا تخرج عن تعاليم لوثر وإنما تجسدها.٣ - معطيات التنوير الفلسفية والفكرية عند: ليسنغ ـ كانت ـ كلوبستوك.٤ - معطيات العاصفة والزحف أو القوة عند: هردر- كلينجر.٥ - معطيات التاريخ الذي اهتمَّ به شيللر، ودرّسه، وألّف فيه، ووظفه للتعبير عن آرائه.. وهو يكاد يكون العمود الفقري لمسرحه كله. محققًا في إطاره الشرط التاريخي للثقافة، كما قدّمه هردر، حيث كان شيللر مبدعًا كشاعر حق بلغته، مجسدًا التطلعات القومية لمواطنيه.٦ - معطيات الواقع الذي يعيشه الشعب من حوله، والمعاناة التي تمرمر حلق ذلك الفقير الخلوق الحساس، حتى في علاقته بحبيبته، ومن ثم زوجه شارلوت لونفيلد، ابنة الطبقة الغنية، التي تعلق بها قلبُ فقير.٧ - تأثير الثورة الفرنسية، الذي لم يلبث أن تغير موقفُه منها، وتأثيرها عليه.وتتجلى لي عبقرية شيللر، في قدرته على الاستفادة من هذه المعطَيات، وفي صهرها لتكون نَسَغًا خاصًّا مستمر التدفق، يستمد منه القدرة على الإبداع. ويحمل هذا النسغ روح شيللر وقدرته المتجسدة في: الحرية ـ القومية ـ القيّم الأخلاقية المستندة إلى الدين ـ والشاعرية الرقيقة المتدفقة.وإذا كان قطبا الرحى في الصراع الذي دار بين حركة التنوير، وحركة العاصفة والقوة، التي مثلها غوته وشيللر في فترة من الزمن، وظهرت في بعض أعمالهما، مثل: "جوتس فون برلشنجن عند جوته. واللصوص عند شيللر"، وكذلك بين الكلاسيكية والرومانسية: "العقل المطلق، والإحساس، "العاطفة" المطلقة، أو الاقتناع القائم على الحجة والمنطق ـ والإيمان اللوثري.. فإن شيللر لم يستطع أن يفصل بينهما كليًّا، فلم يكن عقلًا محضًا، ولا حسًّا مطلقًا. وحتى حين كتب اللصوص تحت تأثير مسرحية جوتس لجوته، التي تمثل مثله اتجاه العاصفة والاندفاع، أو تعبّر عنه في الأدب.. عاش بطلُه كارل ازدواجية عنيفة في أعماقه، بين متطلبات العقل والعاطفة ـ الواجب والقلب ـ وما تقتضيه الأخلاق والعدالة، وما يدور في الواقع ـ الاندفاعة المحررة ـ والاندفاعة الحرة. وقد انتصر المجتمع، القانون، أو قل الدولة "التنوير المحكوم بالعقل"، في داخل كارل، على الفوضى، والحرية المطلقة، واندفاعة القوة العمياء، حتى لو كانت مؤسَّسة على مبدأ حق، أو انفعال بعدل.لقد جاءت حركة التنوير ثورة على الكاثوليكية الكنسية، وقاد لوثر الشعب أو حرضه على تجسيد هذه الحركة. كان يمكن للإنسانيين المسالمين مثل أرازمس أن يصلوا إلى ذلك بأساليب سلمية، لو كان لهم فاعلية، ولكن لوثر هو الذي وصل، أو أوصل إليه، وبالعنف الذي كلف كثيرًا. وحين تعرَّض لوثر لما تعرض له، من جراء تنفيذ أو تجسيد ما كان يدعو إليه بعض العلمانيين والإنسانيين، تخلوا عنه وأدانوه. وربما كان هذا نفسه منافيًّا لمبادئ حركة التنوير نفسها، التي تقوم على استخدام العقل.لقد أجاب كانت Kant على السؤال: ما هو التنوير حيث قال: "إن الاستعمال العلني للعقل ينفي أن يكون في كل وقت حرًّا، فهو وحده الذي يستطيع أن ينشر التنوير بين الناس. وأنا أعني بالاستعمال العلني للعقل، استعمال العلماء لعقولهم حيال كل الجمهور الذي يكوّن عالم القراءة." وقال أيضًا: "إن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي يرجع الذنب فيه إليه". وكان شعار التنوير: "لتكن لديك الشجاعة لتستخدم عقلك".ولكن في الوقت الذي قال فيه "كانت" عن التنوير ودور العقل فيه ما قال، أصدر قانونه الأخلاقي "ليكن سلوكك على النحو الذي يمكن عليه أن تعتبر مسلّمة إرادتك في كل وقت، بمثابة أساس لتشريع عام أيضًا". وهكذا في الوقت الذي دعا فيه كانت إلى العقل، وضع لبنة العودة إلى حكم الإحساس والضمير، والقياس عليهما. فالحقيقة التي يمكن أن يدركها العقل، ليست إذن حقيقة موضوعية خارجية حاكمة بصورة نهائية، وإنما هناك حقيقة في الداخل، قد يقود إليها العقل، ولكنَّ الكشف عنها، والمعيار فيها، هما: للضمير والحق، ولمفهوم الأخلاق المبني على حس وطبيعة سليمين، يستند إليهما شخص ذو إرادة حرة. وهكذا نجد أن شيئًا من العاطفة، مما هو جدير بالاهتمام والمتابعة والتمثُّل: مثل الحرية الفردية، والاهتمام بالفرد وبالأصالة، والالتفات إلى قيمة الإحساس التي قد تعلو على قيمة العقل في مواقف، والعودة إلى الطبيعة والفطرة ـ "مبادئ جان جاك روسو" ـ كل ذلك من الأمور المنقِذة للبشرية ولثقافتها، والمنقذة أيضًا لأخلاقها وقيمها، ولعلاقات الأفراد، وبنية الجماعة، وجوهر التعامل الإنساني والحركة الإنسانية.لقد استطاع لوثر أن يحرك العجلة، أمَّا إلى أين وصلت بعد ذلك، فلا يعنيني. المهم أن أسئلته الخمسة والتسعين التي علَّقها على كنيسة القصر في فيتنبرغ، ومواقفه من صكوك الغفران، من الكنيسة وكتبها.. كل ذلك ترك الباب مفتوحًا أمام الشكوك الدينية. وكما يقول شاتوبريان: "عندما تبدأ الشكوك الدينية تساور الإنسان، فالشكوك السياسية تساوره هي أيضًا، لأن الإنسان الذي يطلب الأركان السياسية في معتقده، لن يتأخر طويلًا عن البحث في مبادئ الحكم الذي يعيش في ظله. وعندما تطالب الروح بحرياتها، فإن الجسد يريد تلك الحرية أيضًا. هذه نتيجة طبيعية لا محيص عنها". وهذا ما آل إليه أمر أجيال تغذت على فكر لوثر وتسلل إلى نفوسها الشك، ونشَدت الحرية، مستعملةً الإرادة والعقل والقوة، كما نشَدت العدالة والتحرر، مستعملةً العنف. وربما لهذا قال شيللر: "ينبغي أن يبدأ الإنسان حركة تنوير أمَّة، بتحسين أحوالها الحيوية، ولا بد أن يتحرر العقل من نير الحاجة، قبل أن يؤخذ إلى حرية العقل".ويجيء دور جيل شيللر في هذا أكثر حظًّا ـ ربما ـ من الأجيال السابقة، لأن معالم نظرية قد تراءت، وأدبًا قوميًّا غُرسَت بذوره، وشعرًا عظيمًا أخذ يُولد، ومسرحًا ألمانيًّا أسس له جوتشيد ولسنغ وجوته، أخذ يعطي ثماره.لا يقع اختلاف بين الباحثين في أمر إعجاب شيللر بشعر كلوبستوك "1724- 1803 Klopstock"، ولا في وقوع شيللر تحت تأثير مسرحية جوتس ورواية آلام فرتر لجوته.. عندما بدأ الكتابة. حيث قلَّد عملي جوته بمسرحيتين، أحرقهما فيما بعد، هما: كوزمو مديتشي، وتلميذ ناساد. ولكن ألا تبدو مسرحية اللصوص، وهي مسرحية استوحى شيللر موضوعها من قصة للشاعر والصحفي لشوبرت Schubert نشرها عام 1775 في مجلة "شتاين".. ألا تبدو، في وجه من الوجوه، معارضة صريحة لمسرحية جوتس فون ارلشنجن؟! ألا تحمل، إضافة إلى أثر جوته، آثارَ قراءاتِ شيللر وتأثّراته بشكسبير على الخصوص؟! يبدو لي أن ذلك ظاهرًا في النص، بنية ومعالجة وموضوعًا، وجوهر الاختلاف يقع في وضوح شخصية شيللر وأخلاقيته وقلقه في مسرحيته، بشكل جعل النص يكتسب مكانة ويفرض استقلالًا. ويتراءى لي أن بذور شخصية شيللر وفكره ونوازعه، وكذلك شَواغله، شابًّا ثم رجلًا، مبثوثة في هذا النص على نحو ما، وستأخذ بالنضج تدريجيًّا في نصوصه الأخرى. وسوف أقف وقفات عابرة على آراء ومواقف لبطل شيللر "كارل مور"، في مواقع من المسرحية، لأستقرئ شيئًا مما أشرت إليه، من خلال النصوص التي أوردها من المسرحية، بترجمة د. عبد الرحمن بدوي:كان كارل مور واثقًا من نفسه كثيرًا في الفصل الأول من المسرحية، وهو يقول: "لقد أفسد القانون كل شيء، بأن فرض خطوة الحلزون على من كان يستطيع أن يطير كالنسر. إن القانون لم يكوّن بعد رجلًا عظيمًا، بينما الحرية تكوّن عمالقة، وكائنات خارقة للعادة". وكان كارل أكثر ثقة وعنفًا وتصميمًا وهو يقول: "هذه الكلمة ـ يعني الحرية ـ وحدها تكفي لوضع القانون تحت أقدامي". كارل الذي كان هنا ممثلًا حقيقيًّا لحركة العاصفة والقوة، لثورة الروح والأحاسيس، على العقل الذي فرضته حركة التنوير، عادَ في نهاية المسرحية، وبعد خوضه التجربة، ليقرِّرَ نقيض ما ذهب إليه، وليري في قيام صرح القانون والتشريع، حياةً للفرد والجماعة، وللقيم التي يريد لها أن تسود. إنه يقول: "ما ضاع فعلًا، وما دمَّرته لن تقوم له قائمة أبدًا، لكن لا يزال باقيًا لي ما يجعلني أتصالح مع القانون الذي أهنتُه، ويجعلني أعيد النظام الذي أفسدتُه. لا بد لهذا من ضحية تبين أمام أعين كل الناس، جلالتهم التي لا يجوز المساس بها، وهذه الضحية هي أنا". ثم يسلم نفسه للعدالة لتقرر ما ترى بشأنه، مؤكدًا أنها هي التي ينبغي أن تنتصر وتحترم وترتفع شعاراتها عاليًا. مانحًا الفرصة لفقير لكي يأخذ جائزة تسليمه للعدالة.وكارل مور، الذي كان يقول: "أريد أن أكون دُبًّا أسوق كل دببة الشمال ضد هذا الجنس السَّفاح". و"بودي لو سممت البحر المحيط حتى أجعلهم يشربون الموت عند كل منبع. الثقة الوطيدة لكن لا شفقة."، و"ألا تعسًا للتعاطف والمداراة الإنسانيتين"، عادَ ليقول، وقد تحول نهائيًّا، بعد تجربة قاسية، وخوضٍ في الدم والقذارة حتى المرفقين، عاد ليقول: "من الآن فصاعدًا لتكن الرحمة شعارنا". ونراه يرتعد رعبًا لهول ما اقترف من إثم وارتكب من فظائع بحق الأبرياء: "أرواح أولئك الذين خنقتهم وهم في نشوة الحب، وسحقتهم وهم في النوم المقدس، وأولئك. آه.. آه.. آه. ألا تسمعون صوتَ مخزن البارود وهو ينهال على أسِرَّةِ النساء وهن بسبيل الولادة!! ألا ترون النيران وهي تعلق مهاد الرضّع؟ هذه شعلة الزفاف، هذه موسيقى زفافي، أوه!! إنه لا ينسى شيئًا وهو يعمل على ربط كل الوقائع. ولهذا بعيدة عني شهوات الحب، ولتكن لي عذاباته!! انتقام عادل."، ويحرم على نفسه من أجل ذلك، وتحت وطأته، نعمة الحب والفرح والسعادة.وإيمان كارل بالقضاء والقدر، وبمقدرة الخالق، لم يتغيَّر، ولكن تغيرت نظرته، تغير تفسيره، فعلى حين كان يقول: "من فوقنا يسيطر مصير لا ينتهي، ولكل أجله، إما على وسادة ناعمة أو في معركة شرسة، أو في الهواء الطلق.. على مشنقة أو عجلة". ومن أجل ذلك يريد أن يواجه كل قوة، وأن يأخذ سيف العدالة ليكون الخالق في تنفيذها على هواه وعلى تفسيره.. عادَ ليرى أن الله لم يعط هذا الحق لأحد، وأن العدالة لا تقرَّر على هذا النحو، وأن المصير المحتوم على الإنسان تنفذه العدالة الإلهية على طريقتها. "الفصل الخامس ـ مشهد الأب موزر مع فرانتس ـ ومشهده مع أبيه ومع اللصوص".ويتحول سؤاله الذي سأله في لحظة إلهام: "لماذا يفلح ما حاكى فيه الإنسان النملَ، بينما يخفق ما يجعله مساويًا للآلهة، أو هذا هو وحده مصيره؟!"، يتحول إلى يقين بأن الإنسان لا يمكن أن يكون إلهًا، أو مدعيًا أنه ينفذ عدالة الإله. وذلك حين يطرح سؤاله الاستنكاري على زملائه: "إنكم لم تحلموا أبدًا بأنكم ذراع جلالة عليا؟!". لقد نضجت رؤيا كارل مور، وفلسف شيللر على لسانه الحياة والتجربة، وحدد موقع الإنسان في الحياة، وموقعها في نفسه: "الأمور الخارجية ليست بالنسبة إلى الإنسان إلا مظهرًا، أنا نفسي فردوس ذاتي وجحيم ذاتي."، وإنه لا يحصل على ما يريد، وإنه ربما مسيَّر على نحو غريب. وفي ذلك تناقض مضحك في الإنسان، وهو حكمة العليّ القدير"، لم أرده حين طلبني، والآن حينما أطلبه هو لا يريدني، ماذا أعدل من هذا؟".. عدل يكتشفه كارل، ويقف عنده حائرًا دهشًا مستسلمًا.وربما تلخَّص قلق كارل كله، وربما كَمَنَ سرُّ اضطرابه وسلوكه على هذا النحو، في تلك المناجاة الفلسفية العميقة، حيث يقول على لسان قيصر:"الزمان والسرمدية يرتبط كلاهما بآن واحد، أيها المفتاح الرهيب الذي سيغلق من ورائي سجن الحياة، ويفتح لي مقام الحياة الأبدية، قل لي، إلى أين ستقودني؟! أيتها الأرض الأجنبية التي لم تدر حولها أية سفينة! أنظري، إن الناس يرتخون تحت قوة هذه الصورة. والتوتر اللامتناهي يتضاءل، والخيال ـ هذا النسناس المتقلب للعقل ـ يظهر أمام سذاجتنا ظلالًا غريبة. لا، لا، ينبغي على الرجل ألا يترنح، كوني ما شئت أن تكوني أيتها الآخرة، بشرط أن تُبقى ذاتي وحدها مخلصة لي، كوني ما شئت أن تكوني، إذا كنتُ في القليل أستطيع أن أحمل معي ذاتي. الأمور الخارجية ليست بالنسبة إلى الإنسان إلا مظهرًا. أنا نفسي فردوس ذاتي وجحيم ذاتي. لو أنك منحتني عالمًا صار رمادًا، وما زالت منه نظرتك، وليس أمامي فيه غير الليل الموحش والقفر الدائم؟ إذن لملأت تخيلاتي الوحدة الصامتة، واستخدمت الأبدية لتمييز اللوحة المختلطة للشقاء الكلي. أو هل ستقودني، بين ولادات جديدة وألوان شقاء جديدة، درجة فدرجة إلى الفَناء؟! ألا أستطيع أن أكسر بسهولة ـ مثلما أكسر الحياة الأرضية ـ نسيج الوجود المنسوج لي في الآخرة؟ يمكنك أن تجعل مني عدمًا. وأما هذه الحرية، فهي وحدها التي لا تستطيع أن تسلبني إياها.(يعمر المسدس فجأة) ماذا، هل لا بد من الموت خوفًا من عذابات الحياة.. ومن الإقرار بانتصار الشقاء؟! كلا لن أحتمل(يرمي المسدس) كبريائي تقوى على وضع حد لعذابي. سأمضي حتى النهاية".إن كارل مور يتابع طريقه "فالحياة كلها ـ على رأيه ـ مكسب للصوص، ولأن الآخرة تهديد مروع لهم، وللصوص الحق في الارتقاء أمام الموت"، إنّه يتابع طريقه، ولكنه من الداخل مسلوب ومنهوب تمامًا، عار حتى من يقين سابق، سوى القرار الذي اتخذه في نهاية المطاف، ليكرس القانون وحياة الجماعة، وليعيد الحق إلى صاحب الحق في القصاص: "يا لي من أحمق حين اعتقدت أنني سأصالح العالم بفظائعي، وسأحافظ على القوانين بالفوضى، كنت أسمي هذا انتقامًا وحقًّا وكنت أتفاخر، أيتها العناية الإلهية، بأني أرهف سيفك الكليل وأصلح تحيّزك. لكن هذه ليست إلا صبيانيات عابثة. ها أنا عند نهاية حياة مخيفة، أعترف، ودموعي تنهمر وأسناني تصرف، بأن رجلين مثلي يكفيان لتدمير كل بناء العالم الأخلاقي. لطفًا، لطفًا بالطفل الذي ادعى اغتصاب حقوقك. من حقك أنت وحدك الانتقام، ولستِ من أجل هذا في حاجة إلى يد إنسان".إن كارل مور ـ أو قل شيللر من خلال كارل مور ـ يلخّص، على نحو ما، مقولات رئيسةً لمارتن لوثر وردودًا منه، بعد استقرائه للتاريخ، على أولئك الذين خرجوا على تعاليم لوثر وبالغوا في سفك الدماء، سواء انطلقوا في أثناء حياته من أمثال: أولريش فون هوتن Ulirich Bon Hutten أو بعد ذلك بكثير من أمثال الكونت ثوران وسواه. والمسرحية على طولها، تتمتع بحيوية، وفيها استطرادات لا يؤثر حذفُها على البنية الفنية للنص، ولا على الشخصيات. ولغتها، والقيم الخلقية والفنية فيها، وكذلك أسلوب المعالجة للموضوع والشخصيات، يحمل نَفَسَ كاتب متمكن، على الرغم من أنها العمل الأول للشاعر فريدريك شيللر.