علي بن سالم الرواحي:
القرآن الكريم ينقسم إلى آيات محكمات مطلوب فهمها والعمل بأحكامها, وإلى آيات متشابهات غير مطلوب منا فهمها, وعلينا الإيمان بها أنها من عند الله سبحانه وتعالى, وعدم الفهم لها دليل صريح على الإيمان, إذ أن لمدراك العقل حدود تنتهي عند, وهذا يعني أن العقل له حد ينتهي عنده, ومحدودية العقل لا يعني أن ما أنزله الله مخالف أو مصادم للعقل, بل أن العجز عن الإدراك هو إدراك, لذلك نتعامل مع المتشابهات لا بسر فهمنا, لها, ولكن بسر قائلها تبارك وتعالى, فهو السميع البصير الخبير العليم مطلقاً, وعدم فهمنا لهذا الأحرف القرآنية المتقطعة لا يعني عدم احتوائها على أسرار ربانية, وعلى الرغم من أن حروف القرآن من جنس حروف العربية, إلا أن قائل القرآن غير باقي المتكلمين, فالتفوق الرباني ليس ناتجاً من ابتكار أحرف جديدة, وإلا كان حجة العرب حيال التحدي أن يقولوا أن لغة القرآن خارجة عن كلامهم, وإنما ناتج من التفوق بصياغة الكلمات ومواقعها, وصياغة الجمل ومواضعها, وصياغة الآيات ومواضعها في ضمن السور, وإلى جانب الألفاظ تأتي صياغة المعاني الاعجازية والصور البلاغية والنحوية الناتجة من النظم, تلك الألفاظ القرآنية تعطينا معانياً لا تنفد, وفي كل يوم تتجدد, وبتعبير آخر عجائبه لا تنقضي بمرور الأيام, ولا بتعاقب الأقوام.
ولمّا كان العقل محدوداً, فإنه لا يعرف مبدأ الإنسان, ولا مصيره, ولا صفات خالقه, ولا يستطيع أن يبتكر النهج السوي, لذا تبينت حاجته إلى الوحي, الذي يلبي فطرته, ويغذي عقله ويطهر نفسه, ويرتقي بروحه, ويسمو بجسده, وانتفاع الإنسان بالأحرف المتقطعة ليس مرتبطاً بفهمه أو علمه لها, لأن هناك من يسوق السيارة لكنه لا يعرف المحرك ولا ناقل الحركة, وإذا جئنا لصانعها نراه يعلم ذلك,
ومن هذه المتشابهات الأحرف المتقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم, وقد جاءت في فاتحة تسع وعشرون سورة, وذلك له علاقة بعدد الأحرف الأبجدية عند من يجعل عدد حروف العربية تسعة وعشرين حرفاً باعتبار الهمزة حرف مستقل, وهذا يعني تطابق عدد هذه السور مع عدد الأبجدية,لكن الغالب هو جعل عدد احرف الأبجدية هو ثمانية وعشرون حرفاً, ونحن لو استقرأنا عدد الحروف المتقطعة وحذفنا منها المتكرر, لصفا أربعة عشرف حرفا تجمع في عبارة (نص حكيم قاطع له سر), وهو نصف أحرف الأبجدية, لكن العجيب إن هذا الحروف هي النصف الدائم من جميع مجموعات الأحرف المختلفة, وهذا يعني أن الأمر لم يكن عبطاً, وأنما جاء بحكمة, فيها سر تدل عليه تلك العبارة, ويجدر بالذكر أن عدد الحروف المتقطعة في القرآن مع حساب المتكرر ثمانية وسبعون حرفاً, وهي تساوي عدد حروف أول ما نزل من القرآن وهو قوله تعالى:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق 1 ـ 5), وهذا أحد أسرارها, وكثير من أسرارها لا نعلمه.
ونرى أن الحروف المتقطعة ـ وتسمى أيضاً الحروف النورانية ـ تأخذ نصف الحروف المهموسة والحروف الجهرية والحروف الشديدة والحروف الرخوية, والمستعلية والمنخفضة, والحروف المفتوحة والحروف المطبقة,وحروف القلقلة.
وقد وردت الأحرف النورانية في الفاتحة, أما ما عداها وهي الحروف الظلمانية لا توجد في الفاتحة, وجميع أحرف الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) غير منقوطة.
وهذه الأحرف ليست أحرف بالمعنى النحوي وإنما أسماء, لذا نجد أن بعضها قابل للإعراب إن شكل اسماً مفرداً أو على وزنه نحو (ص) و(ق) و(ن), ومثل (يس), و(طس) و(حميم) على وزن (جبريل) ومثل (طسم) إن حُرِّكت نون (س).
ولمّا علمنا بعض خصائص الأحرف المقطعة كان علينا أن نعرفها أولاً, وليسمحني القاريء الكريم أن نذكرها الآن، فهي تجمَع في خمس مجموعات هي:
1 ـ ما كان على حرف: (ن، ص، ق) وجاءت في أوائل سور القلم وصاد, وقاف على الترتيب.
2 ـ ما كان على حرفين: (يس) و(طه), و(طس) في النمل, و(حم) في الدخان وغافر وفصلت والزخرف والجاثية والأحقاف.
3 ـ ما كان على ثلاثة أحرف:(ألم) في البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم والسجدة ولقمان و(ألر) في يوسف ويونس وهود وابراهيم, والحجر, و(طسم) في الشعراء والقصص.
4 ـ ما كان على أربعة أحرف: (ألمص) في الأعراف، و(ألمر) في الرعد.
5 ـ ما كان على خمسة أحرف:(كهيعص) في مريم، و(حم عسق) في الشورى.
ومن الملحوظ عدم نزول االحروف المتقطعة جملة أو دفعة واحدة, وإنما نزلت على دفعات لتطلق شرارة تحدي الظالمين المناوئين للقرآن الكريم في كل مرة, وفي كل زمن, تبكيتاً لتخرصاتهم وليبقى القرآن شاهداً على كل أحد, لما فيه من المعجزات الكامنة فيه والمتجددة, وفيه شد انتباه من يسمعه أو يقرأه فيستجيب له عقله وعاطفته.
ويرى بعض العلماء أن الحروف المقطعة لا يُسأل عن معانيها لأن حروف المباني عديمة الدلالة إلا على المقطع الصوتي للحرف, فالميم مقطع صوتي لحرف (م) لكن لها أسراراً ومغازياً، فسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) كان أمياً ومن طبيعة الأمي لا يعرف التمييز بين الأحرف، فكيف بهذا القرآن يأتينا بين الأحرف المختلفة ويميز ما بينها، إن هذا دلالة على أن هذا القرآن ليس من عند محمد, وإنما من عند الله وحده لعجز الخلق عنه ولم يدع أحد منهم أن القرآن من كلامه.
والعرب الأوائل وهم أعلم الناس بالعربية, لم يستنكروا ولم يستغربوا وجود الحروف المتقطعة في القرآن, بل وقفوا مدهوشين أمامها, صاغرين لإعجازها, وعلموا أن القرآن هو كلام الله فآمنوا بالله وأن القرآن هو كتاب الله إلا القليل, ولو رأوا وجود أخطاء لغوية فيه, أو لا معنى للحروف المتقطعة لنقضوا القرآن من أساسه, وكان ذلك أسهل عليهم من محاربة المسلمين وحصول القتل فيهم.
ويرى المدقق التناسب الواضح بين الافتتاحية بالحروف المقطعة والسورة من ناحية الصوت والفواصل ومن ناحية الدلالة, أيضاً, فنرى مثلاً: أن سورة (ن) تكثر فيها الكلمات والفواصل النونيّة, وسورة (ق) تكثر فيها الكلمات القافيِّة , كالقرين وتلقى الملكين والرقيب وقول العتيد والإلقاء في جهنم, كما نرى سورة (ص) تكثر فيها ذكر الخصومات المتعددة كخصومة المشركيم وخصومة إبليس وخصومة أهل النار, وخصومة الملكين اللذين تسورا المحراب على داود عليه السلام, كما أن سورة الأعراف المفتتحة بـ (ألمص) تجمع بين مضامين الميمات والصادات, وسورة الرعد المصدرة بـ (ألمر) تجمع بين مضامين الميمات والراءات.
وبالنسبة للسور التي تشترك افتتاحياتها بالحروف المقطعة المتماثلة, فإن يرى التناسب بينها في السياق والمضمون ,وقد جاءت سورتا البقرة وآل عمران بالترتيب , وجاءت سور العنكبوت والروم ولقمان والسجدة بالترتيب, وجميعا مفتتحة بـ (ألم), والناظر في سورتي البقرة وآل عمران مثلاً يجد التناسب والتوافق في مضامينهما فالحج مذكور فيهما وكذا أحكام الجهاد, والربا, وهكذا الحال التوافق بين سورتي العنكبوت والروم, والتناسب بين سورتي الوم ولقمان, وبين سورتي لقمان والسجدة, ونرى التشابه في السياق, ويلاحظ في البقرة وآل عمران وجود (الله لا إله إلا الحي القيوم).
.. للموضوع بقية.