[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/06/k.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خلفان المبسلي[/author]
**
تموت الأشجار في إفريقيا فيمرّ الخبر مرور الكرام، غير أنّ ذبول شجرة "باوباب Baobab" خبر مثير لانتباه جماهيريّ، لأن الجميع يستفيد من ظلّها عند الحرارة، ومن أوراقها وثمارها عند الجوع وجذورها عند المرض، فتحوّلت باوباب بذلك رمزاً للحكمة والتضامن في هذه القارة السمراء، حيث تعقد العقود وتبرم الاتفاقيات وتناقش قضايا المجتمع تحت هذه الشجرة العظيمة، التّي تطلق نسبة إلى الرجال العظماء اعترافاً بجميلهم وتقديرا لمكانتهم. ولعلّ خالي باوباب الشرق اختار الرقود بجوار باوباب القارة السمراء، للتذكير بأنّ بلادنا كانت قائد عظيم لهذه المنطقة في التاريخ، قبل أن يقلّب الدهر ظهر المجن.
نعم، كان خالي باوباب الشرق، صنع لنفسه صورة خالدة في الأذهان تبعاً لتعليمات الإسلام، إذ ابتسامته المعتادة لا تفارق محياه، وطيبة قلبه عنوان وجهه حين تلقاه، ودماثة خلقه تجعلك لا تفارق مكانه ومأواه، وذلك بشهادة الجميع، فكان يسعى دوماً لإصلاح ذات البين، ولا يملّ في ذلك حتّى ولو كان في فراش المرض.
وكان إلى جانب هذا كلّه ذا هيبة وعلو شأن ومع ذلك لا يمشي في الأرض مرحاً، ولذا استطاع أن يبني حيث يهدم غيره، ولم يكن ممن يقطع ما أمر به الله أن يوصل.
بينما هو في هذا الوضع المريح في مسقط رأسه لا يفتقر إلى سند لوفرة الأرزاق والأحباب والإخوة، فإذا به يقرّر السفر إلى تنزانيا (أفريقيا)، فاعتبر الكثيرون ذلك نوعا من المزاح، إلى أن جاءت لحظة الفراق فودّع الأهل والأحباب، بعد أن زار أصحابه يلتمس منهم العفو، كدأبه في المناسبات الدّينيّة وغيرها، ودعهم والدمع يترقرق من وجنتيه، وحسرة الوداع بادية على محياه، يا لها من لحظة! أوحت للجميع أنّها رحلة بلا عودة!.
غادر البلاد معيّة رفيقة دربه، التي كانت له بمثابة القلب النابض بالحياة، وتوجّها إلى القارة السمراء رغبة في مواساة المعسرين والمكروبين والمحتاجين هناك، وما أن نزل ببلاد الأفارقة والتقى بأبناء أخيه الذين كانوا يعيشون هناك احتفل الجميع بقدومه احتفالاً بهيجاً فأقام بينهم وهم فرحون به، ولكن، لم تمرّ سوى أيام معدودة، ودونما مقدمات تذكر في ذلك المكان الموحش المقفر، وهو يطوف بين بيوت المحتاجين يطرق بيوتهم برفقة زوجته يدخل في قلوبهم البهجة والسعادة فما أعظمه من سلوك، إلاّ وأعياه المرض انتهى بأن اختاره الله تعالى ونقله إلى جواره بطهارة جسم وقلب، وترك وصية حملت معاني القيم والسلام، والحب والتعاون جلّها من وصايا رسولنا الأعظم، فأي اختيار ذاك وأي قبض لروح ذاك وأي موقف قبضت فيه الروح، إنّه ذهب ليموت هنالك وكأنه على موعد مع الموت في ذلك المكان المتوشح بالبساطة.
تلقيت خبر وفاته فأحسّست بصدمة كبيرة، وتساءلت إن كان الخبر صحيحاً، إلى أن تأكّدت من صحّته، إذ بعد الوفاة تمّ دفنه هنالك، فصلينا عليه صلاة الغائب، ويا لها من لحظة صعبة تعلّقت بذاكرتي فلا أنساها! وهو موقف شديد .. لكنني تصبرت وذكرت الله فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! تجلدت وقرّرت إلغاء كلّ الأمور التي كنت عازماً القيام بها في هذا اليوم الذي تلقّيت فيه الخبر، فحزنت عليه حزناً شديداً، ولم أتمالك نفسي فذرفت دموع الحزن على فراقه دون توديع، بعد أن كنت في كل زيارة له في بيته يدعوني إلى الحديث معه، فلا نملّ ولا نكلّ ممّا نتلقّى منه من النّصائح المخلصة، وكنّا نزداد له حبّاً يوماً بعد يوم، فما أوسع قلبه وما أكبر همته.
وداعاً يا خالي، باوباب الشّرق، إنّا إلى الله جميعاً راجعون. ارقد بسلام ورزقك الرحمان مغفرة وجناناً. اللهم آمين.
*[email protected]