عمّان ـ العمانية:
يجذبك المشهد من بعيد وأنت تجتاز الطريق المرتفع الذي يتزيّن جانباه بالأشجار والنباتات ومن حولك الجبال والوديان السحيقة شكّلتها الطبيعة على مر الزمان تحفة فنية وحين تصل إلى المدينة ستكون على موعد مع الآثار الإنسانية التي صنعتها حضارات قديمة في عصور سحيقة غاب صانعوها تحت التراب لكنهم تركوا فوقه ما ظلّ شاهداً على عبقريتهم مدى الحياة.
وهذه هي مدينة "أم قيس" التي تقع على هضبة مشرفة على وادي الأردن وبحيرة طبريا وهضبة الجولان السورية وكانت هذه المدينة تعرف باسم "جدارا" أي "المدينة المحصّنة" إحدى المدن الرومانية العشر المتحالفة (الديكابوليس) حيث شهدت في العصر الروماني نهضة أدبية وفنية وعمرانية وأصبحت من أبرز مراكز الثقافة والفن والشعر الرومانية وفيها عاش أشهر الشعراء والأدباء والفلاسفة، ومنهم: "ثيودورس" مؤسس مدرسة البلاغة آنذاك وشاعر الهجاء "مينيبوس" والشاعر الساخر "ميلاغروس" لهذا لُقّبت المدينة بـ"أثينا الجديدة".وعلى الباب الرئيسي للمدينة التي تقع شمال الأردن، يستقبلك شاهد يدلّ على مكانتها ثقافياً وحضارياً، وهو عبارة عن حجر ضخم منصوب على قبر الشــاعر الكبير القديــم "
أرابيوس" ومنقوشة عليه عبارات من الشعر، وعند التوغّل أكثر داخل مدينة أم قيس ستطالعك أهم الآثار التي قاومت الزمن والحروب والاضطرابات التي مرت عليها كالمسرح الروماني الغربي والممرات المقنطرة وصفوف المقاعد المبنية من حجر البازلت الصلب وصفّ مقاعد المسرح المحفورة المخصصة للشخصيات البارزة والشارع المبلّط الذي يقع في الجهة المقابلة للمسرح ويرجّح أنه كان المركز التجاري للمدينة، والشرفة القريبة من مسرح البازلت الأسود التي تضم ساحة وكنيستين إحداهما صغيرة والأخرى كبيرة، كما يوجد على امتداد الشارع الغربي بقايا مجمّع الحمّامات الرومانية والنافورة ذات الأحواض والمحاريب التي تزينها تماثيل صغيرة من الرخام.
وأكبر المسارح في مدينة أم قيس هو "الشمالي" ويمكنك مشاهدة بقاياه من على رأس التلة بجانب المتحف، أما المسرح الغربي فهو المسرح الذي يميز المدينة ويمنحها طابعها الخاص وتم الحفاظ عليه بعناية فائقة ومعظم أجزائه ما تزال ماثلة للعيان وربما يعود ذلك إلى متانة الحجارة البازلتية السوداء التي شُيّد منها خلال القرنين الأول والثاني للميلاد ويمكنك إذا ما اخترت المقاعد العليا من مدرج المسرح أن تشاهد أجمل مشهد لغروب الشمس.
وقريباً من المسرح الغربي توجد الشرفة المدعومة بأبنية مقنطرة والتي صُممت فيما مضى لتكون دكاكين تخدم ساكني المدينة وكانت هذه الدكاكين أقل انخفاضاً من مستوى الشرفة وتربط بينها طرق معبّدة وأرصفة للمشاة وعلى التقاطع بين الشارعين الرئيسيين المبلّطين تقع النافورة ذات الأحواض والمحاريب المزينة بالنقوش والتماثيل.
ومن أبرز المعالم التي تعطيك صورة واضحة عن طبيعة الحياة الرغيدة التي تمتع بها سكان المدينة قديماً، مجمّع الحمّامات الرومانية الذي يعود إلى القرن الرابع للميلاد ويقع قريباً من الشوارع المبلّطة، ويمكنك الوصول إلى الأجزاء السفلية للحمّامات بسلوك طريق ترابية مقابلة للمسرح الغربي وهذا المجمّع عبارة عن حمّامات رومانية تحتوي العديد من الغرف التي خُصص بعضها للماء الساخن أو الدافئ وبعضها الآخر للماء البارد وكانت المياه تُجلب من الينابيع المعدنية المنتشرة في المنطقة والتي ما يزال بعضها موجوداً حتى اليوم وكانت هذه المياه تُستعمل للعلاج والاستجمام أيضاً.
وعلى بعد 500 متر من الحمّامات الرومانية يوجد النصب التذكاريّ الروماني الغربي، وقد حافظ على معظم أجزائه وخلف هذا النصب هناك صهريج مصنوع من حجر البازلت الأسود (صهريج الماء السفلي) وبالقرب منه درج يقود إلى القاعة الأمامية وهي عبارة عن شرفة النصب التذكاري نفسه، ومؤخراً كشفت الحفريات عن بقايا كنيسة كبيرة لها خمسة ممرات تقع فوق هذا النصب.
وتطالعك في أرجاء مختلفة في المدينة بقايا القبور المحفورة في الصخور والبوابات القديمة كالبوابة الغربية والبوابة التي شُيّدت على شكل قوس ثلاثي الأضلاع استجابةً للتوسعات التي شهدتها المدينة خلال النصف الأخير من القرن الثاني للميلاد.
وإلى جانب الآثار الرومانية تضم المدينة التي تعدّ مقصداً سياحياً وخاصة في فصل الصيف آثاراً من الفترة العثمانية وأهمها قرية عثمانية مبنية من الحجر المنقول من الأبنية القديمة وقد رُمّم أحد مبانيها الكبيرة ليُستخدَم اليوم كاستراحة للزائرين تشرف على بحيرة طبريا بينما رُمم المبنى الرئيسي الذي كان يُستخدم منزلاً للحاكم العثماني ليصبح متحفاً للّقى والآثار، من مثل التماثيل والفسيفساء والعملات المعدنية.