تكـريـم الله للإنسان (115)
الحمـد لله والصـلاة والسلام عـلى سـيـد خـلـق الله، وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه، وعـلى مـن تبعهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد: فإن عـلى الـمـؤمـن الحـريص الأيـمان أن لا يـقـصـر هـمه لجـمع حـطام الـدنيا وينسى مصيره إلى الآخـرة، فـما مـتاع الـدنيا بجـانـب متـاع الآخـرة إلا قـلـيـل.
قال الله تعـالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ُأولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الـحشـر 18 ـ 19).
وروي أن الحـسن البصـري: أعـطي شـربة ماء يـارد ، فـلـما أخـذ القـدح غـشي عـليه، وسـقـط مـن يـده، فـلـما أفـاق قـيـل لـه: مالك يا سـعـيـد؟ قـال: إني ذكـرت أمنية أهـل الـنـار حـين يقـولـون لأهـل الجـنة:(وَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (الأعـراف ـ 50).
وروي أن جـماعـة مـن الصحابة ـ رضـوان الله عـليهـم ـ ذكـروا رجـلاً قـيـل هـو عـبـد الله بن عـمـر بن الخـطاب ـ رضي الله عـنهـما ـ عـنـد رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) فـقال الـرسـول:(نعـم الـرجـل هـو لـو كان يصـلي اللـيـل)، وقال الـرسـول ـ عـليه الصـلاة والسـلام ـ لـرجـل مـن الصحابة:(يا فـلان لا تكـثر النـوم باللـيـل، فإن كـثرة النـوم باللـيـل تـدع صاحـبها فـقـيرا يـوم القـيامـة)، يـقـصـد الـرسـول (صلى الله عـليـه وسـلـم) بالـفـقـر يـوم الـقـيامـة فـقـيرا مـن الحـسـنات.
قال الله تعـالى:(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (الإسـراء ـ 79)، وقال تعـالى:(.. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الـذاريات ـ 18)، وقال:( .. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) (آل عـمـران ـ 17)، وقال رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم):(ثـلاثة أصـوات يحـبها الله تعـالى: صـوت الـديـك ، وصـوت الـذي يـقـرأ الـقـرآن، وصـوت المسـتغـفـرين بالأسـحـار).
وقال سـفـيان الـثـوري: إن الله خـلـق ريحـا طـيبة تهـب وقـت الأسـحار، تحـمـل الأذكار والاسـتغـفـار إلى الـملك الجـبار، وقال: إذا كان أول اللـيـل يـنادي مـناد مـن تحـت العــرش، ألا لـيقـم العـابـدون، فـيقـومـون إلى السحـر، فإذا كان السحـر نـادى مـنـاد ألا لـيقـم المستـغـفـرون فـيقـومـون ويستغـفـرون، فـإذا طـلع الـفـجـر يـنادي مـناد، ألا ليقـم الغـافـلـون فـيقـومـون مـن فـرشـهـم كالـمـوتى نشـروا مـن قـبـرهـم.
وروي أن لـقـمان الحـكـيـم أنـه قال لابنـه وهـو يـرشـده وينصـحـه: يا بني لا يـكـونن الـديـك أكيـس منـك، يـنادي بالأسـحـار وأنت نائـم، ولـقـد أحـسن مـن قال:
لقـد هـتفـت في جـنح ليـل حـمامة
عـلى فـنـن وهـنا وإني لـنائـم
كـذبت وبيت الله لـوكـنت عاشـقا
لما سبقـتـني بالبـكاء الحـمائم
وأزعــم أني هـائـم ذو صــبابـــة
لـربي ولا أبكي وتبكي البهائم

وقال رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) لبعـض أصحابه:(اعـمـل لـدنياك بـقـدر مقـامك فـيها، واعـمـل لآخـرتـك بقـدر مقـامـك فـيها، واعـمل للجـنة بقـدر حاجـتك إلـيها واعـمل للـنـار بقـدر صـبرك عـليهـا).
وإذا كان الرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) يقـول:(طـلب العـلـم فـريضة عـلى كل مسـلم ومسلمة)، وفي رواية أخـرى:(طـلب العـلم فـريضة عـلى كل مسلم)، المـراد هـنا عـلم الحـال أن العـلم المحـتاج إلـيه، في الحـال الموصـل إلى النفـع في الحال الـدنيا والمـآل الآخـرة، وكما يقـال: أفـضـل العـلم عـلـم الحـال، وأفـضـل العـمـل حـفـظ المال، فـيـفـرض عـلى الطـالـب ما يصلـح حـاله ويطـمـئن مآله.
إن الـواجـب عـلى مـن يطـلب العـلـم أن يخـلص في الطـلب، وأن يقـصـد به وجـه الله، فـعـلـم لا يصـلح القـلـب ولا يـزكي النفـس ولا يعـين عـلى تهـذيـب الأخـلاق، ولا يـكـون حجـة لصـاحـبه يـقـوده إلى الجـنة، فـسـوف يـكـون حجـة عـلى صـاحـبه والعـيـاذ بالله، فـهـو طـريقه إلى الـنـار.
وقـد أرشـدنا الله تعـالى في كـتابه بـقـوله:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحـل ـ 43)، وقال:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء ـ 7)، وقال:(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ) (العـنكـبـوت ـ 49)، وقال:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطـر ـ 28)، وقال (صلى الله عـليه وسـلم):(مـن سـلك طـريقا يلتمـس فـيه عـلـماً)، وفي رواية أخـرى:(يطـلب فـيه عـلـما سـلك به طـريقـا إلى الجـنة، وإن المـلائكـة لتـضـع أجـنحـتها لـطـالب الـعـلـم لـرضاء الله عـنه، وإن العـالـم ليستـغـفـر لـه مـن في السماوات ومـن في الأرض حتى الحـيتان في جـوف الـماء).
ولكـن ذلك في حـق العـلـماء العـامـلـين الأبـرار المتـقـين، الـذين قـصدوا به وجه الله الكـريـم، والـزلفى لـديه في جـنات النعـيـم، لا مـن طـلبه بسوء نية، أو خـبث طـوية أو لأغـراض دنـيـوية، لطـلب مال أو جـاه أو سـمعـة، فـقـد روي عـن رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم):(مـن طـلب العـلـم ليـماري به السـفهاء، أو ليـكاثـر به العـلـماء، أو يـصرف به وجـوه الناس إلـيه، أدخله الله الـنـار)، وعـنه (صلى الله عـليه وسلم):(مـن تعـلم عـلـما لغــير وجه الله، أو أراد به غـير وجـه الله ، فـليتـبـوأ مـقـعـده مـن الـنـار).
والعـالـم الحـقـيقي هـو الـذي يـراقـب الله في جـمـيع أحـواله، في سـره وعـلا نـيـته وأن يخـافـه في جـمـيـع حـركاتـه وسـكـناته، وأقـواله وأفـعـاله، فإنه أمـين عـلى مـا أكـرمه به من العــلـوم، قال الله تعـالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفـال ـ 27)، وقال تعـالى:(فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائـدة ـ 44)، وقال أحـد العــلـماء:(ليـس العـلـم ما حـفـظ، ولـكـن العـلـم ما نـفـع)، وقال أمـير الـمـؤمـنين عـمـر بن الخـطـاب ـ رضي الله عـنه:(تعـلـمـوا العـلـم، وتعـلـمـوا له السكـينة والـوقـار).
وحـق عـلى العـالـم أن يـتـواضـع في سـره وعـلا نيته، وأن يحـترس مـن نفـسه الأمارة بالـسـوء، وأن يصـونه بالعـمـل الصالـح، كـما صانه عـلـماء السلـف الـصالح بأداء حـقـوقـه وتعـلـيمـه للناس، ويـقـوم له بما جـعــله الله تعـلى لـه مـن العــزة والشرف، فـلا يمنعـه أهـله وطالـبه، ولا يـبـذله لـغـير أهـله فـيخـصـمه يـوم القـيامة.
يقـول الشـيخ نـور الـدين السالمي ـ رحمه الله:
مـن منـح الحـكمـة غـير أهـلها
تخـصـمه قـد قـيـل عـنـد ربهـا
وقال أبـو شـجـاع الجـرجـاني وقـد أحـسن القـول:
أأشقى به غـرسا وأجـنـيه ذلـة
إذن فاتبـاع الجهـل قـد كان أحـزما
ولـو أن أهـل العـلم صانـوه صانهـم
ولـو عـظـمـوه في النـفـوس لعـظـما
.. وللحـديث بقـية.

ناصر بن محمد الزيدي