تضمنت سورة القدر عددًا من الأساليب النحوية التي أسهمت من غير شك في تعميق الدلالة ورسوخ المعنى واتضاح المقصود وكشف المراد، والقارئ للسورة المستجلي لمعانيها، لا يعدم أن يجد فيها رغبته ويحقق نهمته، ويشبع غلَّته ،يقوّي عَزْمته ويزيد من رِيِّ القرآن وعبقه عطشته ويحسِّن بالله علاقته ويثبِّت على الطريق خطوته ووِجْهته.تبدأ السورة الكريمة بقوله تعالى:(إنا أنزلناه في ليلة القدر)، وهو أسلوب توكيد، أداته (إنَّ)، وقد دخلت على (نا) التي تعود على الله عز وجل، فهو المتكلم المعظِّم ذاته ـ جلّتْ صفاته ـ وهذا يدل على عظمة المُنزِل، كمال وجلال المُنْزَل ،وقدسية المُنزِل، وقدْر المنزَل عليه، فالله ـ جل جلاله ـ قد تفضَّل على البشرية كلها بإنزال القرآن الكريم في تلك الليلة، وكون الآية تنزل أول ما تنزل بأسلوب توكيد، فإن هذا يعني أن ما بعدها ثابتٌ، وجميع ما فيها من فضل، ونعم راسخ، معمَّق في النفس، متجذِّر في الذات، وأن نفس المؤمن يجب أن تعتقد فيما تسمع عن الله ،فهو وحده القادر على إنزال هذا الكتاب العظيم الذي فيه سعادة الخلقِ التي شاءها الحقُّ، ومع أن القرآن الكريم بدأ نزوله فيها، أو نزل كاملاً إلا أن الفعل جاء بصيغة الماضي، ولم يقل:(ينزله) أو(سأنزله) لأن الله تعالى خلق الزمن ،فلا يسري على الخالق ما يسري على المخلوق فلا يسري عليه الزمن، ولا يحكم الزمن على خالقه، كما قال تعالى:(أتى أمر الله فلا تستعجلوه)، وأمر الله هو يوم القيامة ؛لأن كل ما هو آتٍ آتٍ، ولا تحكم على الله الأزمان أبدًا، ولا المسافات،فهو خالق الأوقات والساعات، ويعرف ما يقع ويتم في الصباحات وفي المساءات ومن ثَمّ عبّر بالماضي،والتعبير بالماضي يزيد النفس راحة،ويطمئن معه الفؤاد، ويستقر معه القلب، فهو تعبير مؤكد بجملة من المؤكدات منها ك (إنَّ)، وفيها (نا) الدالّة على العظمة الكاملة، وفيها الجملة الاسمية: (نحن أنزلناه في ليلة القدر)،ثم أسلوب الإحالة بالضمير (أنزلناه) الذي يعود على القرآن فكأنه ذكر مرتين، مرة بالظاهر، وأخرى بالضمير، وفي ذلك مزية تأكيد، ودلالة تعظيم وشارة تبجيل.ورغم أن الضمير في السورة لايعود على اسم ظاهر مذكور، على عادة اللغة العربية من ضرورة عود الضمير على ظاهر قريب؛لكنْ هنا لم يتقدم في السورة نفسها الاسم الظاهر ليبين الله تبارك وتعالى أن القرآن كله لُحمة واحدة، يفسر آخرُه أولَه، ويكشف أولُه عن عظمة آخره ،حيث يعود الضمير في (أنزلناه) على القرآن الكريم الذي ورد في سورة البقرة في قوله تعالى:(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ..)، فكأن الضمير اخترق عشرات السور، ومئات الآيات، وآلاف الأحرف حتى تعود الهاءعلى صاحبها الاسم الظاهر (وهو القرآن) المراد ذكره في سورة البقرة، كما أن الضمير في (أنزلناه) سبق بما يفسره (قبل سورة القدر وبعدها)، فسورة العلق قبْلا تبدأ بقوله:(اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وهو يقرأ ما أنزل في ليلة القدر،فكأنه يقول:(اقرأما أنزلناه في ليلة القدر)، فهي مناسبة ظاهرة مع ما قبلها (في بدايتها وكذا في نهايتها).وأما مناسبتها لما بعدها فهو ما ورد في سورة البينة، ففي سورة القدر فيها (إنا انزلناه)، وذكر ضمير المُنْزِل (إنَّا)،(وأنزلنا )،وضمير المنزَل (وهو الهاء في أنزلناه التي تعود على الاسم الظاهر)الذي هو القرآن الكريم، عرض في سورة القدْر المبهم فهو لم يبين اسمَ المنزِل، ولا اسم لا اسم المنزَل (إنا أنزلناه)، هما ضميران ( الضمير : نا والهاء)، وأما في سورة البينة فقد بَيَّنَ هذا الضمير ـ ضميرالمنزل ـ ووضح كذلك ضمير (المنزل عليه) حيث قال تعالى:"رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة"، فـ (رسول من الله) هو المنزَل عليه، و(الله) هو المنزِل سبحانه، فقد تبيَّن فيها كلٌّ من ضمير المنزَل منه (وهو الله)، وأما الهاء في(أنزلناه) فتتضح في قوله تعالى:(يتلو صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة)، والصحف المطهرة هي القرآن الكريم،أي رسول من الله يتلو الصحف المطهرة، والمقصود بها أن (الذي هو القرآن الكريم في (أنزلناه)، ثم وضح كذلك المنزَل عليه (رسول من الله)، كما ذكر كذلك المنزِل، وقد بيَّنه بعد أن كان ضميراً:(من الله)، والصحف المطهرةـ كما أسلفت ـ هي القرآن الكريم، وهو الضمير في (أنزلناه)، فسورة البينة بينتْوأوضحت كلَّ الضمائر الواردة في سورة القدر قبلها، وهذا من سمات وخصائص أساليب القرآن الكريم، حيث يوجد التناسب الجميل، والتناسق الدقيق، حتى في اسم السورة (البينة) أي: التي تبين، وتربط بين السورتين، وتكشف وتبين عن ضمائرها،فالمناسبة بين القدر، وما قبلها واضح ظاهر، ثم يأتي اسلوب الاستفهام الذي يراد به التفخيم، والتجلَّة، والتعظيم والتبجيل:(وما أدراك ما ليلة القدر)، فما: استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها الخبر، وقد خرج الاستفهام عن معناه الأصلي إلى المعنى الثانوي البلاغي، كما يقول القرآن:(القارعة ما القارعة)، و(الحاقة ما الحاقة)، و(أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة)، (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين)،(وما أدراك ما يوم الدين)،"وما أدراك ما العقبة"، فهو استفهام يراد به التفخيم والتعظيم، وقد ورد مرتين:"ما أدراك ما يوم الدين"،وهنا كناية عن اليوم الآخر، وسمَّاه الله (يوم الدين) إجلالا وتعظيما لشأن الدين في النفوس، وكل ما ورد في القرآن الكريم من قوله:"وما أدراك" في القرآن الكريم ـ الواردة بصيغة الماضي ـ فقد أدراه الله إياها، وأوقفه عليه، وأما صيغة المضارع (يدريك) فلم يُدْرِهِ، مثل:(وما يدريك لعل الساعة قريب)،(وما يدريك لعله يزكى ..).واستعمال أسلوب اليقين المتمثل في فعل اليقين (أدري) الذي يفيد الإحاطة والشمول، ومعرفة الله عز وجل لأقل ما يحصل في الأشياء، ولو كانت خواطر تجري على الفؤاد قبل أن يتلفظ بها اللسان، ونجد هنا كناية عن طلاقة القدرة، وكمال العلم ، وتمام الإحاطة، وجلال القيومية، كما أنه كناية أيضا عن منزلة ليلة القدر ، وبيان عظمتها، وتمام جلالها، ثم يأتي الأسلوب الخبري (ليلة القدر خير من ألف شهر)؛ ليثبت مكانتها في النفوس، ومنزلتها في الأفئدة، وقدرها ومقامها ووزنها وكمالها عند ربها، الذي تفضل بها على عباده المؤمنين، وقد تخلله أسلوبُ تفضيل في كلمة (خير) التي أصلها (أخير) بوزن (أفْعَل) التي تعني أن الليلة الموعودةـ بلغكم الله إياهاـ هي في المنزلة أفضل وأعظم من عبادة ألف شهر ، ليس فيها ليلة قدر،وأن ثوابها في كل سنة يضاف إلى السنة التي قبلها، وهي (ثلاث وثمانون سنة وثلث)، فعبادة ألف شهر، والطاعة فيها، لا تعدل قيام ليلة القدر وحدها دون بقية أيام رمضان، وهنا كذلك كناية عن عظم الليلة، وكمال أجرها، ورفعة قدرها، وجلال منزلتها، وتأتي الأساليب الخبرية ويكون غرضها الإقرار والتثبيت، والترسيخ، والتمكين في القلوب. ثم يأتي أسلوب التخفيف بحذف إحدى تاءيْ(تنزل) لأن أصلها (تتنزل) بتاءين، بحذف التاء الأولى، فأصبحت (تنزلُ) تيسيرا في النطق وتخفيفا، يتناسب مع يسر الليلة، ويسر القيام، ويسر الطاعة فيها، وخفته على قلب، وجسد المؤمن، وكأن النزول أمر يسير يجيء ويمضي سريعا،لاعنت فيه ولا تعب،فالتيسير حاصل حتى في نطق ألفاظها، والمضارع يفيد الاستمرار. والأسلوب الحالي الذي يتسم بمكانة المتنزل المصاحب للقرآن وهو جبريل ـ عليه السلام ـ والمكنى عنه بالروح، ليتناسب مع روح القرآن الكريم وروحانيته، فالروح كناية عن موصوف هو جبريل ـ عليه السلام ـ ومصاحبة كبار القوم تضفي على اللقاء متعة وشرَفا،فها هو ذا جبريل ـ عليه السلام ـ سفيرُ الملائكة ومن له حظوة عند ربه:(ذو مرة فاستوى) ينزل بشخصه الشريف، مع الملائكة يصاحبهم، ويقويهم، وينزل مسلِّما مؤمِّنا مصافِحا العاكفين الراكعين الساجدين الذاكرين المتبتلين الداعين الطائعين، وهو ـ من وجه آخر ـ كناية عن شرف الليلة وشرف القائمين فيها الساجدين الطائعين المعتكفين . وقد وضُح أسلوب الحذف والتيسير في حذف المبتدأ، وبقاء الخبر في نحو: (سلام) أي سلامُها سلام، أي أُقِرَّ فيها سلام، ولو قلنا: أنه خير مقدم لـ (سلام)، المبتدأ المؤخر، لكان تقديماً وتأخيراً، (أي هي سلام)، فيكون الكلام هنا من قبيل عوارض التركيب، وجاء العارض بالحذف مرة أو بالتقديم للخبر على المبتدأ مرة أخرى، ثم ختمت بقوله تعالى:(هي مطلع الفجر)، وهو أسلوب خبري كذلك، يوضح وقتها:ابتداءً وانتهاءً، وفي والوقف والابتداء في هذه الآية جملة من أنماط الوقفات، منها:(سلام)، (سلام هي) ،(هي حتى مطلع الفجر)، وكل منها يفضي إلى دلالة جديدة وفريدة تبيِّن كمال السورة وجلالها، وقد تعانقت الأساليب اللغوية بين: خبرية وإنشائية، وتوكيد، وعطف، وتفضيل، وحذف، وتقديم وتأخير، وكلها تسهم في بيان قدر الليلة والكشف عن منزلتها وعظمتها ومكانتها.والله أسأل أن يكتبنا من أهلها،ويجعل لنا فيها أوفر الحظ والنصيب، وأن يسلكنا فيمن فازوا بها، إنه سميع قريب مجيب وقدير، وبالإجابة جدير، نعم المولى ونعم النصير والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.د/ جمال عبد العزيز أحمدجامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم ـ جمهورية مصر العربية[email protected]