[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” في محطتنا الثالثة وعلى مدى أكثر من أربع ساعات وصلنا إلى ( نوراليا), بحثت عن أصل هذه التسمية ومعناها فلم أحصل على شيء, إذ يبدو أنها محرفة من أصل عربي, فقد تكون ( نور علي), فإن كان ذلك كذلك, فمن هو علي هذا؟ وما هي قصته وعلاقته بهذا المكان؟ هل هو واحد من الرحالة العرب الذين حطوا رحالهم هنا؟”
ــــــــ

ثالثا: وصف الرحلة ومساراتها ( كاندي – نوراليا).
أخذت المسافة من كولومبو وحتى كاندي محطتنا الثانية ما يزيد على الخمس ساعات, تخللتها محطات كان لا بد من التوقف فيها, محمية الأفيال ومزرعة التوابل وبعض المحلات التي تبيع منتجات محلية, على طول الطريق امتدت المقاهي والمطاعم والأكشاك والأسواق الشعبية والباعة وهم يعرضون بضائعهم المختلفة التي تشرف على الشارع من الجهتين, مختلف أنواع الفواكه والتوابل والمكسرات والمشغولات اليدوية واللوحات الفنية والمجسمات التي ترمز لحيوانات وطيور ومعتقدات دينية وأسطورية وغير ذلك الكثير, وهي مما يجذب السائح فينتقي منها ما يناسب ذوقه ويصلح لأن يهدى للأحبة كذكرى, كان الحقل الزراعي ممتدا إلى ما لا نهاية, أشجاره من مختلف الأنواع والأصناف, الشاي – البن – الأرز – الكاكاو – مختلف أنواع البهارات – المكسرات – البقوليات - الفواكه والخضار على أنواعها ... جمال الطبيعة وألوان وكثافة وتنوع أشجارها وتلك الجداول المنسابة في سواقي متعرجة بين السيقان والأغصان والجذور تأسر النظر وتحيي ما انطفأ منه وتجعل من الإنسان عاشقا منقادا متأملا تلك المشاهد والصور في أددق تفاصيلها, فتأخذ العقل إلى عالم من الأسئلة التي لا تنتهي عن هذا الكون الذي يشكل لوحة متناسقة البناء, كل جزء من أجزائه وعنصر من عناصره تضعنا أمام معجزة تدل على عظمة الخالق وعلى أسراره الكونية التي فتحت للإنسان مجالات واسعة للبحث والتنقيب والدراسة, ومع كل هذه النظريات العلمية والاكتشافات المذهلة والبيانات والمعلومات الهائلة وما يقدمه العلم من وسائل وتقنيات دقيقة وحديثة ومع ما وصل إليه علم الإنسان من طفرات متتالية, إلا أنه لم يبلغ من العلم بأسرار هذا الكون إلا اليسير اليسير, والأرض جزء من أجزاء هذا الكون , وما عليها من بحار وجبال وصحارى وغابات خضراء وأنهار وبشر وحيوان وطير وشجر وغير ذلك الكثير ما لم يحطه نظر إنسان, وليس بمقدور قلم مهما أسال من الأحبار أن يعبر إلى تفاصيله الدقيقة وجزئياته المتناهية في الصغر, يمثل كل منها مشروع دراسة وبحث ومتابعة من خبراء متخصصين وجامعات تقوم بدور كبير في هذا الإطار .. هذه الحياة بتشابكاتها وعناصرها الكثيفة وتكاملها وتداخل مصالحها وارتباطاتها وخصائص كل عنصر منها ومنافعه وما يطرحه من تساؤل عن غايات وجوده, كلها مشاريع علم وبحث ودراسة ستصلنا نتائجها إلى عالم من المجهول وتجيب على العديد من الأسئلة الحيوية. جمال الطبيعة هنا لا يشعر السائر بالدرب مهما طال ومهما كانت مشاقه ومعاناته, يلقي بنظره في هذا الفضاء الفسيح ولا يرجع البصر إلا وقد اختزن في ذاكرته عشرات بل مئات الصور والمشاهد الجميلة, أوراق الشجر – الأغصان المتشابكة المتداخلة – البساط الأخضر ـ المياه المتدفقة في بطون الأودية والتي تلتحم وتتشابك وتتداخل لتشكل نهرا يعبر قرى ومدنا وأريافا وحواضر, ناثرا البهجة والخضرة والجمال, وبجريانه يسقي الحقل والزرع والأشجار والطير والبشر والحيوان , وبارتوائها تضمن البلاد انتاجا وفيرا من محاصيلها وثمارها ... محظوظة هي الشعوب التي تعيش على أرض خصبة تربتها , وفيرة مياهها , خلابة طبيعتها , خضرة جبالها وسهولها , عليل نقي هواؤها , معتدل طقسها , كثيفة غاباتها , قادرة على توفير متطلبات شعبها من الأغذية والمياه لا تعاني من مشكلة في أمنها الغذائي والمائي. من أين تنبع هذه المياه والشلالات المتدفقة التي تفاجأنا من هنا وهناك, وإلى أين وجهتها ؟ ما الذي ستصادفه في طريقها؟ أمنيتي أن أسبح على صفحتها المنسابة مكتشفا تلك الأمكنة التي تعبرها لو كان ذلك ممكنا ؟ . كاندي مدينة واسعة ما زالت مبانيها القديمة وأسواقها تشهد على حقبة الاستعمار البريطاني, والحديثة صممت لتأخذ ذات الطابع الأوروبي في العمارة, تحيط بالمدينة الجبال الخضراء التي تتوزع على منحدراتها الحقول الزراعية والفنادق والشاليهات والمنتجعات الجميلة, طقسها معتدل ومنعش. الحديقة الملكية في كاندي والتي يقدر عمرها بأكثر من مئتي عام تزخر بمختلف الأشجار الصغيرة والعملاقة التي تناطح السماء وتمتد جذورها الضخمة لعدة أمتار, وأنواع من الزهور التي شكلت غابة متداخلة الأغصان والجذور وقد بدت في منظر مهيب وبديع لمن يزورها, وفي كاندي حدائق للزهور وأخرى للطيور, أما الحدائق والمنتزهات الأخرى فتنتشر في جميع أنحاء المدينة.
في محطتنا الثالثة وعلى مدى أكثر من أربع ساعات وصلنا إلى ( نوراليا), بحثت عن أصل هذه التسمية ومعناها فلم أحصل على شيء, إذ يبدو بأنها محرفة من أصل عربي, فقد تكون ( نور علي), فإن كان ذلك كذلك, فمن هو علي هذا؟ وما هي قصته وعلاقته بهذا المكان؟ هل هو واحد من الرحالة العرب الذين حطوا رحالهم هنا؟ وهل النور رمز لكراماته وما كان يتصف به من خلق وكرم ونبل؟ أسئلة تتطلب إجابات, وإجابات تحتاج إلى بحث ودراسات. في طريقنا إلى نوراليا كانت مزارع الشاي والأرز وأشجار الصنوبر تفترش السهول والمدرجات الجبلية وقممها باللون الأخضر, الذي يسلب النظر ويخلب اللب, فلا جمال يفوق هذا الجمال, ولا طبيعة تعادل هذه الطبيعة البكر التي أخذت بأفئدة الأوروبيين الذين تناوبوا على احتلالها والسيطرة على خيراتها الوفيرة لأكثر من ثلاثمائة عام, الشلالات المنحدرة من قمم الجبال وجداول المياه العذبة والبحيرات والأنهار الطبيعية, والمنحدرات التي ترافقنا في صعودنا التدريجي نحو القمم الشاهقة التي تعلو السحب وتجتازها شيئا فشيئا, قمم نوراليا الملتحفة بالأخضر. في طريقنا توقفنا في واحد من مصانع الشاي المتناثرة في كل مكان, تعرفنا على مراحل صناعته وإعداده وأنواعه, الأخضر والأحمر, المخصص للشاي الحليب والأخر للشاي الأحمر وثالثا للكرك وبنكهات غايتها إرضاء جميع الأذواق, اطلعنا على المعدات القديمة التي تجاوزت المئة عام والتي أتى بها الانجليز خصيصا لصناعة الشاي. العمارة وزراعة الشاي وصناعته وثقافة استخدامه ومصانعه والعديد من الأنماط ترمز إلى حقبة الاستعمار البريطاني الذي ترك ملامح وبصمات واضحة في كل مكان من سريلانكا. فقد قام البريطانيون بزراعة الشاي في هذه المناطق, وأنشأوا مصانعه وعلموا السريلانكيين الذين كانوا يعملون في هذه المصانع لصالح المستعمر كيفية صناعته ومراحلها, وأقاموا العديد من المعالم والبيوت ذات الطابع المعماري الأوروبي والتي ما زالت تقف شامخة تعلن عن تلك الحقبة من التاريخ. تقع المدينة في سهل منبسط في أعلى الجبال أشبه بسقف مرتفع يطل على الأرض, إذ يشعر الزائر لها بأنه في موقع طبيعي على أرض منخفضة, بحيرة نوراليا الطبيعية التي تتوسط البلدة تعد واحدة من المتنفسات المهمة والأماكن السياحية الجميلة, ومن ضمن البرامج التي تقدمها هذه البحيرة للسائح والمقيم جولة بواحد من القوارب أو السفن السياحية التي ترسوعلى شاطئها. الطريق إلى ( نهاية العالم ) يمر عبر مرحلتين , الأولى بالسيارة لعدة ساعات, والثانية مشيا بالأقدام لعدة كيلومترات, المنطقة غاية في الجمال, حيث تتكون من محمية طبيعية تتواجد فيها أنواع من الحيوانات المفترسة والغزلان والطيور والأشجار النادرة, وغابات تحجب أشعة الشمس ومزارع تنتج الشاي والفواكه المختلفة وجداول وشلالات هادرة ونهرا يخترق المحمية, وهي تقع على سقف من القمم الشاهقة التي تداخل وتلتحم أحيانا وتنفصل في أحيان أخرى عن بعضها, حيث يرى السائر في مواقع محددة السحب وهي تعانق تلك القمم. فمناظر السحب وهي في عناق أبدي مع القمم الجبلية المكسوة بالمسطحات الخضراء وأعين البشر ترقبها من سقف علي يكاد يلامس السماء, مشهد ساحر وأخاذ ويدعو إلى التأمل والتفكر, لحظتها تمنيت أن لو كنت شاعرا أو رساما أو مصورا محترفا أو قادرا على تطويع اللغة فأسكب كلماتها ببلاغة تفوق كل ما كتب من وصف وتعبير وغزل في جمال الطبيعة وحسنها, كانت كلمات الثناء والإعجاب والإشادة والمديح تتناثر من أفواه الأصدقاء, تحولوا في لحظة فجائية إلى عشاق حقيقيين وكادت قرائحهم أن تنتج شعرا رصينا, فالمشهد يدفع بالإنسان دفعا إلى قول الشعر, وجهت سؤالي مباشرة إلى الكاتب والقاص أبو مصعب سعيد الكندي, كيف أصبحنا عشاقا في غفلة من أمرنا؟ فرمى بالإجابة مباشرة إلى أحضان الطبيعة الخلابة وكأنه يقول لي اسألها هي لا أنا, كان الأخ والصديق أبو الزهراء علي الحارثي ينتقل بكاميرته من موقع إلى آخر لالتقاط أفضل الصور المعبرة, وكانت الحيرة تتناوشه والخيارات أمامه تتسع فكل موقع هو الأفضل من سابقه, فهل سيظل طول يومه يلتقط الصور ؟ شيخ المجموعة بدر المعمري أبو سالم كان صامتا يفكر ويتدبر في ملكوت الله الواسع آخذا بنص الآيات القرآنية الكريمة التي تدعو الإنسان إلى ذلك, الأخوان أبو هيثم سالم التميمي, وعلي الفليتي أبو المهند مشغولان بالتقاط وتوثيق العدد الأكبر لهما من الصور مع الطبيعة حرصا على مشاركة أسرتهما عبر الواتسب تلك المناظر البديعة, الصديق العزيز أبو عدنان حافظ المسكري كان لا يمل من تكرار كلمات الإعجاب بهذا الجمال الطاغي الذي فاض به الكون داعيا لانتهاز الفرصة للاستمتاع بمفاتنه, الأخ فوزي بهوان كان حريصا على مواصلة السير لاكتشاف المزيد من تلكم المشاهد وكان في حالة قلق وخوف من أن تشعر مجموعته بالتعب والإعياء فتتخذ قرارا بالعودة إلى نقطة الانطلاق, الأخ الطيب تركي البوسعيدي الذي كان يتقدم المجموعة بنشاط وحيوية الرياضيين بمسافة كبيرة لم يترك مجالا للآخرين إلا أن يقتفوا أثره إلى نهاية المطاف .. لماذا سميت المنطقة ب (( نهاية العالم )) ؟ حاولنا أن نفهم المغزى من المرشد السياحي وممن صادفناهم هناك ومن النت وأن نحصل على إجابة عن السؤال فلم نوفق إلى ذلك, هل سميت بهذا الاسم تعبيرا عن انعزالها عن العالم, عن مدنه وحياته الحضرية والبشرية أم لتميزها وإشرافها على هذا العالم من علو شاهق, هل لأنها مرتع للحيوانات المفترسة والطيور الجارحة وتحتوي على أشكال من المخاطر ومن يصل إليها من البشر سوف ينتهي عالمه وتسلب حياته هنا؟ هل لجمالها الأخاذ وطبيعتها الساحرة وحسنها البديع شبهت بالجنة التي يصل إليها البشر بنهاية العالم فالتسمية رمز لسكنهم ومقامهم فيها, أي في الدار الآخرة ؟ قد تكون التسمية رمزا لواحدة من هذه التفسيرات وقد تكون لمغزى آخر لم ندركه فباب التأويلات والتفسيرات واسع في بلاد الأساطير. كانت ( بنتوتة), وهي التي تأثرت كثيرا بالسونامي, وسميت كما أشرت إلى ذلك نسبة إلى الرحالة العربي الكبير ابن بطوطة ضمن برنامج زيارتنا ولكن وبسبب ضيق الوقت وبعض الظروف التي استجدت لم نتمكن للأسف من زيارتها.
في المطار وفي الطابور الذي اصطف فيه حشد المغادرين الأراضي السريلانكية, لإنهاء إجراءات الدخول, ظهر فجأة مواطن خليجي ليقف في بداية الطابور متقدما كل من سبقوه بحجة أن طائرته على وشك الاقلاع, وليته اكتفى بذلك فقد ألقى بجواز بلده أمام الموظفة السريلانكية التي تقوم بإجراءات التدقيق وختم العبور بازدراء وعدم مبالاة, وتلفظ بلغته العربية بسيل من الشتائم والكلمات المهينة بحق الموظفة ومجتمعها .. غافلا أو جاهلا بأنه بتصرفه ذاك يوجه الإهانة إلى نفسه ووطنه وعروبته وعقيدته وقيم آبائه وأسلافه, فإلى متى سيظل العرب يتصرفون أمام الآخرين بهذه العنجهية والصلف ويقدمون أنفسهم في صورة تسيء إلينا أيما إساءة؟ وحتى متى سيبقى هؤلاء وأمثالهم يدينون بالإسلام ويتفاخرون بالعروبة في وقت يكفرون فيه عبر سلوكهم الفظ برسالة الإسلام وبمبادئه وبقيم العروبة وأخلاقها ومناقب أسلافهم ؟ .
تجري سريلانكا قدما نحو التطور والبناء والتنمية للحاق بالمدن والبلدان المحيطة بها, ويسعى المواطن السريلانكي إلى تطوير قدراته وتنشيط اقتصاد بلاده بالتعليم الجيد والعمل الجاد والاستفادة من الخبرات العالمية في مختلف المجالات, ولكن السياحة ما زالت تحتاج إلى الكثير من الجهد والعمل وضخ الأموال لتنفيذ وتطوير وتجويد المشاريع السياحية وتعزيز الوعي بهذا القطاع وما يتطلبه من تهيئة وتوظيف للمقومات السياحية وترويج وتسويق وأسلوب تعامل مع السائح .. فما زالت شبكات الطرق ووسائل النقل ضعيفة وبدائية في بعض الأماكن , وما زال الموظف في الفندق وفي المطعم وفي المواقع السياحية بعيدا في تعامله مع السائح عن هذه الثقافة, والمواطن غير قادر على فهم وإدراك ما تتمتع به بلاده من مقومات سياحية متميزة. أخيرا ومن أفضل ما نختتم به هذه الحلقات قول الإمام الشافعي من أبيات له :
أمطري لؤلؤا جبال سرنديب
وفيضي آبار تكرور تبرا. وكذلك هي جبال سرنديب.