الأحد 08 سبتمبر 2024 م - 4 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

نبض طبيب : أبطال تحت سماء واحدة

نبض طبيب : أبطال تحت سماء واحدة
السبت - 27 يوليو 2024 04:59 م

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

60


تتأجَّج ملاحم الحُب في الشدَّة؛ ذلك الشعور الأسطوري الَّذي ينعش خلاياك سعادة... وبالرّغم من أنَّ الحُبَّ قد يدوم، لكنَّ السَّعادة لا تدوم، وهي ليست من الثَّوابت، وهذا حال ابن آدم..

تتشابك قصص الأمل واليأس وتُنسَج خيوط القدر المختلفة تحت السَّماء نَفْسها، والأُفق نَفْسه، والتَّشخيص نَفْسِه، والعلاج نَفْسِه، ولكن لكُلٍّ مِنَّا نصيبه يرنو له بأعماق رُوحِه فيتردَّد صَداه مدوِّيًا بَيْنَ حتميَّة الأقدار ومشيئة الله.

في غرفةٍ واحدة، يتنفَّس شابٌّ في مُقتبل العمر، أصابَتْه يَدُ القدر بسرطانٍ شرسٍ لم يكُنْ يخشى المَرض بقدر ما كان يخشى فقدان حبيبته. بعيونٍ متفائلة خطَّط لزفافِه وحدَّد موعده، غير مكترثٍ بالسموم الَّتي تتغلغل في شرايينه خلال جلسات العلاج الكيماوي، كُلُّ هذا الثَّبات من أجْلِ رفيقة العمر.. سقَطَ حاجباه العاليان، ضمرَ جسدُه، وتجعَّد جِلُده، وأفَلَ سطوعُه، ولكنَّ قلْبَه ما زال ينبضُ حُبًّا وحياة، إنَّها مشاعر اللاوعي وبديهيَّات الحواس ومُسلَّمات الشُّعور رغم حتميَّات الجُرح النَّازف.

سيناريو المَرض كان مُشرِقًا في البدايات... حتَّى إنَّه دعا الطَّاقم الطبِّي للحفلِ، تجهيزات الفرح، الزهور، في انتظار يوم السَّعادة الأكبر، لكنَّ القدر له كلمتُه مرَّت الأيَّام واقترب موعد الزَّفاف، دنا مؤشِّر المَرض بعباءته السَّوداء، معلنًا بأنَّ المنايا تحوم بظلالها، رغم تمسُّكه بالحياة ركلَتْه ركلةً قويَّة ليدقَّ خريف العمر أبوابه بفراقٍ يخلع القَلْب، وهشَّمت ما بناه من أحلام، أشاحَ الفرحُ بوجْهِه تاركًا خلْفَه الدَّار المتداعية، حيث حضر المدعوُّون أنْفُسُهم، ولكن بوجوهٍ معزِّية، وفي لباسِ الحداد، اللَّون الأبيض الَّذي يُزيِّن أفراحنا ويكتسي عزاءنا حضرَ هذه المرَّة لِيطويَ العريس في رحلتِه الأبديَّة كأنَّما يودِّع عروس أحلامه بسلامٍ سرمديٍّ إلى مثواه قَبل الأخير.

وفي الرّدهة الأخرى وسط غمامة من نُور بالجناحِ ذاته، شابٌّ يتيمٌ يواجِه التَّشخيص القاسي نَفْسه، لكنَّه لم يهَبِ الموتَ بقدرِ خوفِه على أن يُسلبَ مِنْه حلمه بالنَّجاح، كان يُدثِّر الحروف برداء الأمل، تحقنه الحياة بجرعات الكيماوي بِيَدٍ، بَيْنَما يتشبَّث بحلمِه ويمسِك بكتابِه باليدِ الأخرى، امتشقَ حسامَه مستمدًّا قوَّته من قولِه تعالى: «ومَن يتوكَّل على الله فهو حَسْبه».

مُعلِّموه لم يتركوه وحيدًا في معركته، بل جاءوا إلى المستشفى ليمنَحُوه الدَّعم مُكلِّلين إيَّاه بالأمل، انتصر على امتحانَيْنِ: مقرّره الدراسي، وتجربة الحياة مع هذا المَرض، هكذا تُسطَّر أمجادُ البسطاء، لم يكُنْ وحيدًا في سَعْيِه، فقد كانت أيْدِيًا مُحِبَّة ترفع عَنْه أثقال المعاناة، وتزرع في قلبِه بذور التَّفاؤل والإصرار، إخوة له في الإنسانيَّة من الفريق المعالِج كانوا زملاء له في الكفاح ويحيطونه برعاية حانية، تعانقها دعواتهم الصَّادقة: «إنَّ مع العُسر يسرًا». بفضلِ إيمانِه العميق وعزيمته الصُّلبة استطاع أن يلتحقَ بجامعة السُّلطان قابوس، متحرِّرًا من قبضة المَرض، ليبدأَ حياةً جديدة على عتبة مستقبلٍ مُشرِق، مُحمَّلًا بعزيمةٍ تخترق الروح، ومُفعمًا بروحانيَّة تلامسُ شغاف القلب.

في عالَم المَرض، تتناثر القصص وتتفرَّد الحكايات، ولكُلِّ مَريضٍ تعويذتُه الخاصَّة بالرّغم من أنَّه عاجزٌ عن صناعة قدره. ولكن نبقى حائرين بَيْنَ مَنْ سيحظَى بالشِّفاء، ومَنْ سيطويهِ الموت، بَيْنَ مَنْ سيَعُودُ إلى دفءِ بَيْتِه، ومَنْ سيحلِّقُ للسِّماء، هكذا هي سنَّة الحياة مسرحٌ للتناقضات، فمَنْ وجدَ الله نالَ كُلَّ شيء، والأحلام لا تموتُ ما دامت القلوب تنبض باليقين بالله.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

طبيبة وكاتبة عمانية