الأحد 08 سبتمبر 2024 م - 4 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : المعلبات الفكرية الجاهزة وخطرها على الأمن الوطني

في العمق : المعلبات الفكرية الجاهزة وخطرها على الأمن الوطني
الثلاثاء - 23 يوليو 2024 05:23 م

د.رجب بن علي العويسي

50

لعلَّ ما يُبرزه واقعنا نحن الشَّباب واهتمامنا بترويج المُعلَّبات الفكريَّة الجاهزة، وشكليَّات العناوين البرَّاقة المصحوبة بالسلبيَّات والتهكُّمات والسّخريات، نمطٌ فكري خطير، وسلوك سطحي نَحْوَ التبعيَّة العمياء، وتحجيم لِدَوْر العقل الاستراتيجي والتفكير الواعي، في إدارة معطيات التحدِّي الفكري الَّذي يعيشه عالَمنا المعاصر وما نتج عَنْه من تشويهات للحضارة الرَّاقية وتعميق للهُوَّة بَيْنَ الدوَل والشعوب وترقيع لمفاهيم المواطنة والمشتركات الإنسانيَّة، وهو نمطٌ باتَ يفتقر للقِيَم والأخلاق السَّامية ويفتقد لذائقة الجَمال الروحي والفكري النَّابع من معايير الآداب والمروءة والأخلاق السَّامية الَّتي دانت لهَا الفطرة السليمة، حتَّى باتت ممارساتنا الفكريَّة حماقات نرتكبها بِدُونِ توقُّف، وسلوكيَّات نتنافس فيها بِدُونِ خجلٍ، فأضعنا أنْفُسَنا في متاهات البحث عن موقع لنَا نُعِيد فيه قوَّتنا وهَيْبتنا فلم نستطعْ، فقد دنَّسْنا أنْفُسَنا بما تناقلته أيدينا عَبْرَ سُوء استخدامنا لشبكات التواصُل الاجتماعي والفضاءات المفتوحة وتطبيقات الهواتف المحمولة، والارتماء في أحضانها، والانجرار وراء التَّافهين وغوغائيَّة مشاهير المنصَّات الاجتماعيَّة، فلم نرحمْ أنْفُسَنا، أو نحترمْ قِيَمنا، وأقنعنا أنْفُسَنا بأفكارٍ جزمنا أنَّها فينا أو تُهمٌ ألصقناها بأوطاننا، فأصبحت مستساغة لدَيْنا، فضلَلْنا بفعلنا وأضلَّنا غيرنا، وانعكس ذلك كُلُّه على تعاملنا مع الإشاعة، ونظرتنا للمُعلَّبات الفكريَّة الَّتي تصل إِلَيْنا أو نستوردها، أو يصنعها البائسون والباحثون عن الشُّهرة أو المنتظرون لحجمِ الإعجابات، ليصبحَ ثقافة يتقمَّصها الكثيرون منَّا، برغبةٍ أو مجاملةٍ أحيانًا أخرى، ولكنَّها ستظلُّ قناعات وأفكارًا تنتشر مساحات العمل بها، وتبرز تأثيراتها ونتائجها بحجمِ ما أُعطيت من اهتمامٍ وتداوُلٍ بَيْنَنا، فإنَّ لمحتوى هذه المُعلَّبات وقت انتهاء صلاحيَّة، عندما تفسد العطاء، وتتجاوز القانون، وتخلق الفوضى، وتُسيء للوطن، أو تحاول أن تبحثَ عن مسارات تصطاد فيها ما يحلو لها، وتغتنم فرصة قلقِ الشَّباب وحيرته وبحثِه عن العمل أو انتظاره للوظيفة، لتهمسَ في سمعِه وتأخذَه إلى عالَمها وتسيطر على فكره. لقد كتبنا بها على أنْفُسِنا حياة البؤس، ورجعيَّة التَّفكير، ونمطيَّة الاستيعاب، فاجتررنا كلماتها وأُعجبنا بتعبيراتها، حتَّى استفحلت في النَّفْس، وقويت في اللِّسان، فأصبحت لنَا فضاءات مفتوحة نتنابز فيها بالألقاب نأكل فيها لحمَ بعضنا بعضًا ونقتاتُ فيها على سفاسف الأمور، فضاقت بِنا الحياة، وضيَّقنا على أنْفُسِنا فرص العطاء، والاستمتاع بالنَّجاحات الَّتي تحقَّقت لنَا، لقد أقنعنا أنْفُسَنا بأنَّنا نعيش في عالَمٍ سريع التغيير مشاع المعرفة. وما دام الأمْرُ كذلك فعَلَيْنا أن نسيرَ في الركب إن أساء النَّاس فليس لنَا من الأمْرِ إلَّا الإساءة مِثلهم، ولأنَّهم الكثرة فما كانت الكثرة تجتمع على ضلاله، فقمنا بنشرِ كُلِّ شيء، وتبنَّى بعضنا أفكارًا ضالَّة وقناعات سلبيَّة وأنماطًا فكريَّة دخيلة لم يكُنْ لها وجود في مُجتمعنا الأمن المسالم الَّذي يحترم إنسانيَّة الإنسان ويقف صامدًا في وجْهِ كُلِّ إساءة لكرامته الَّتي منحَه الله إيَّاها، فأضلَلْنا بفعلنا، وانتقمنا من عيشنا.

لقد غابت عن أذهاننا فكرة التَّمحيص لهذه الأفكار، وما تسطِّره في صفحاتها وبَيْنَ سطورها من مساوئ أو خربشات تبحر في قعر الكراهية والحقد للوطنِ والإنسان، فألزمنا أنْفُسنا مسؤوليَّة نشْر الأفكار المبطَّنة الجاهزة، والأنماط الفكريَّة المُعلَّبة، وإثارة فرص التضليل وتغييب الحقيقة، حتَّى وإن كانت تفتقد لخصائص الجديَّة، أو تبتعد عن روح المسؤوليَّة، أو تتنافى مع مفاهيم الذَّوق واحترام المشاعر، أو تتجافى مع منطق العقل، أو تتعارض مع موجِّهات النَّقل، أو تتباعد عن مستندات النَّص، فاتَّبعناها بلمح البصر، وتعاملنا معها بِدُونِ بصيرة، فأوجدت في سلوك بعضنا الغوغائيَّة والهلْوَسة الفكريَّة، والهشاشة المعرفيَّة وغيابًا بعد التمحيص والتأمل والعمل والبحث في قَبولها من عدمها، لنتركَ لها تسيطر على عقولنا، وتستبيح مقدَّساتنا، وتضيع ما أثبتناه للعالَم عقودًا طويلة وسنين عديدة من خلوِّ بلادنا من العادات الفكريَّة المارقة، فطرتنا الَّتي لا تقبل التدنيس، ولا ترضى بالدَّناءة، ولا تقبل العبَث بالأوطان، ولا ترضخ لكُلِّ ناعقٍ يريد تمزيق وحدتنا، أو اختبار موقفنا، أو زعزعة نسيجنا، وأوهمتنا بمساحات الحُريَّة العمياء الَّتي ستكُونُ لنَا جزاءً ومصيرًا، حتَّى وإن شوَّهنا حقائق الإنجاز، أو ضيَّعنا فرص العطاء، لِتكُونَ أبواقها شاهدةً عَلَيْنا، ناكرةً للجميل، واقفةً في وَجْهِ المعروف، ضاربةً بوَجْهِ الحياة المُشرِق وإنجازاتها المُخلِصة عرض الحائط، فأصبحت حياتنا ترديد الأفكار السلبيَّة، والتطبيل على المُعلَّبات الفكريَّة منتهية الصلاحيَّة، عديمة الفائدة، الحسيَّة والمعنويَّة، يُخوِّفوننا بقادمٍ مُحزن، وبمُشْكلةٍ اقتصاديَّة لا تنتهي، وبأزمةٍ ماليَّة خانقة، وبمستقبلٍ مشوبٍ بالحذر وعلامات اليأس، فضاقت بمِثل هؤلاء الأرض، الحمقاء، والمطبِّلين لتخريب الأوطان، والمُجرمين في حقِّ التَّنمية، والمعاقرين لنداء الوحدة، فانطلقوا بهذيانهم الفكري وسلوكهم الطائش المنزلق في وحْلِ الضَّغينة والكراهية والأحقاد، مَن يسوؤهم نجاح الوطن ولحمته، وثبات مبادئه وتوازن سياساته، وتناغم مُكوِّناته، وانسجام أُطُره، وتفاعل منظوماته، وتكامل منصَّاته، ليدسُّوا في حياة المواطن وثباته وإيمانه وثقته في قيادته ومنظومات الدَّولة ومؤسَّساته عبارات الإصلاح والتغيير المزيَّف متلذِّذين بإثارة الفتنة، متفاعلين مع مُنكري الحقيقة، مهيِّجين للرأي العامِّ بأفكارهم الَّتي تحمل في ذاتها خبث الفكرة ورداءة السلوك.

وهكذا تظهر كُلَّ يوم مزامير تغنِّي للهوان، وترقص للضَّعف، وتبارك للفشلِ، وتصفِّق للانتكاسة، وتحقِّر من قِيمة النجاح، وتقلِّل من عظمَة المنجز، وتقارن في ظلِّ عدم تكافؤ، وتتقوَّل من غير دليل، وتنحاز من غير تريُّث، فبدَا الشَّباب في حالة من الارتباك؛ نظرًا لشيوع هذه الكلمات في رسائل المساء والصباح، حتَّى أدخلنا أنْفُسَنا في دوَّامة هدفهم، بتقمُّصنا دَوْر المُسوِّق لأفكارهم وكتاباتهم بمحض إرادتنا، إنَّها هلْوَسة الذَّات عندما تنظر إلى الجزء المُظلم في الحياة، لقد أوهمونا بأنَّهم يقومون بِدَوْر الإصلاح ومقارعة الفساد والإفساد، في حين أنَّهم يمارسونه، بما ينشرونه من أفكار تتجافى ومضامين صون كرامة الإنسان وحفظ حقوقه، فأفسدوا قِيَم النَّاس وأخلاقهم وأضافوا إلى واقعهم ثقافة السلبيَّة واختزال التَّنمية، فإنَّ ما تحمله هذه المُعلَّبات من أفكار الحُريَّة المُطلَقة والفوضى المُجحِفة في حقِّ الإنسان والتَّنمية، الدَّاعية إلى تجاوز القانون أو الناقمة على النظام، فتصطاد في الماء العكر عَبْرَ إلهاء الشَّباب عن قضاياهم الكبرى وأولويَّاتهم وأهدافهم المصيريَّة، ليبحثوا عن رصيدهم في الكلمات النَّابية أو الأفكار الضيِّقة أو الطموحات الوقتيَّة والاحتياج القائم على الأنا في التفكير، وإشغال الشَّباب بالتَّفاهات والرُّدود والمجادلات الوقتيَّة الَّتي تضيِّق عَلَيْهم نوافذ الأمل، وتقلِّل فيهم دوافع العطاء، منعطفًا خطيرًا في ثقافة الشَّباب، ينبغي البحث لها عن أُطر تصحيحيَّة ومراجعات جديَّة تنطلق من التَّفسير الدِّيني السَّليم لها، وتوحيد لُغة الخِطاب الوطني بشأنها، ورسم صورة مكبّرة لطُرقِ التعامل معها واحتواء وتوجيه المتسبِّبينَ فيها، والاستفادة من قصص النَّجاح وترقيتها وتوسيع مساحات الودِّ والحوار في ربط إنسان هذا الوطن بمنجزه الحضاري.

إنَّ وطننا بحاجة إلى الأفكار الواعية الدَّاعمة للعطاء، كما هو بحاجةٍ إلى الأقلام المشخِّصة لواقعِه بموضوعيَّة ومهنيَّة، وأن تتَّجهَ الكلمة ـ أيًّا كانت وسيلةُ نشْرِها ـ إلى البحثِ عن مساحات التجديد والتطوير والقوَّة، مُستعينين بمنهج الإخلاص ومراجعة الذَّات وتقييم الإنجاز، ومصداقيَّة الكلمة، والتَّسامي فوق الإساءة والتَّعميم والأحكام المسبقة، فإنَّ كثرة المُصفِّقين والمطبِّلين والمُروِّجين لبعضِ المُعلَّبات الفكريَّة، والأقلام المُسيئة إلى الوطن والمواطن، لن تُنسيَنا حقَّ وطنِنا، أو تُلقي بسوادها على ذاكرتنا الوطنيَّة الجميلة، كما لا نتوقع بأن تبنيَ فينا مداخل للتجديد؛ لأنَّها مُعلَّبات منتهية الصلاحيَّة لا تثبت أمام إنجازات وطني الخالدة، وقِيَم وأخلاقيَّات الأُمَّة العُمانيَّة المَجيدة، لن يكُونَ لَهُم ما أرادوا، فأبناء عُمان وطن للعطاء، وشموخ للإباء، ومثال للتضحيات، وثقة في المسؤوليَّة، وصِدق في الكلمة، وموضوعيَّة في الرَّصد، فلْنكُنْ لعُمان وطنًا يحتوي زلَّات المخاطرين بعظمة الكلمة والمُسوِّقين لفتاتِها وزَبَدِها، ويقف في وَجْهِ كُلِّ صيحات الاغتراب الفكري والانحراف المعرفي والغوغائيَّات والفلَتات والتقزُّمات والعاهات والسرطانات الخبيثة المبطَّنة بنار الفتنة وهشاشة التفكير وسطحيَّة الأفكار وضلال التوَجُّه، أن تدنسَ وحدته، أو أن تندسَّ بَيْنَ مُكوِّناته، أو أن تتسلقَ على أكتاف النعمة والفضل بَيْنَما في وجهها الآخر تخون الوطن وتعبثُ بمقدَّراته وتُسفِّه أحلامه وتشقُّ عصا الوحدة والطَّاعة والولاء والانتماء. فالحذر الحذر من المُعلَّبات الفكريَّة الجاهزة المشوِّهة لأصالة الأمن والأمان والتَّعايش والسَّلام والتَّسامح والوئام الَّتي انصهرت في الأرض العُمانيَّة العصماء، وتشرَّبتها تربتها الطيِّبة، لتظلَّ بكُلِّ فخرٍ قِبلة العالَم أجمع، شرقه وغربه، وشماله وجنوبه في أحلكِ الظروف وأصعبِ المواقف. اللَّهُمَّ احفظ بلادنا عُمان من كُلِّ سُوءٍ ومَكْروه.

د.رجب بن علي العويسي