الأحد 08 سبتمبر 2024 م - 4 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم (حرف السين ودوره في البلاغة القرآنية) (1)

الأربعاء - 26 يونيو 2024 06:10 م
50

د. جمال عبد العزيز أحمد*

الإعجاز كما يكون في الكلمة، وفي التركيب، يكون كذلك في الحرف، سواء أكان حرف مبنى، أي: تُبنَى منه الكلمة، كالراء في (رجل)، أم كان حرفًا معنى كالحرف (في) في قوله تعالى:(فامشوا في منكبها وكلوا من رزقه)، أو على كما في نحو:(وعليها وعلى الفلك تحملون)، أو كالسين في نحو:(قال سأستغفر لكم ربي)، أو سوف كما في نحو:(وسوف يؤتِ الله المؤمنين أجرًا عظيمًا)، ونحو حرف الجواب في قوله تعالى:(.. قالوا نعم)، وحرف الاستفهام في قوله:(هل تحس منهم من أحد).

ـ النموذج الأول: وهنا نعرض للإعجاز الصوتي في حرف السين، ونرى ما فعله في سياقه، وما سكبه من بلاغة، وبيان، وجمال وكمال في محله من الآيات القرآنية، ومواضعه في السور الكريمة، يقول الله تعالى:(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) (طه ـ 108).

في هذه الآية الكريمة جاءت أقوالُ العلماء مؤكدةً لجلال مجيء السين في (هَمْسًا)، فمنهم من قال: يهمسون مُسِرِّينَ بكلماتِ الرحمة، والدعاء التي لا تكاد تسمع، ومنها أنها خطابُ النفس للنفس، ورجاء الرحمة، وتمنِّي العفو، فهو مشغول بنفسه، داعٍ بينه وبين ذاته، راجيًا أن ينال رحمة الله، وعفوه، ومنهم ذهب إلى أن الهمس هنا ليس همسَ حديثٍ، ولا وسوسةَ قولٍ خافتٍ، وإنما هو صوتُ وَقْعِ الأقدام فقط عند المشي؛ لأن أحدًا من الخلق لا يمكنه أن يتكلمَ إلا بعد أن يأذن الله له، ويَرْضَى اللهُ له قولًا؛ مصداقًا لقوله تعالى:(يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (طه ـ 109)، وكقوله تعالى:(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) (النبأ ـ 38)، وكقوله تعالى:(يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود ـ 105).

وجاء في كتب التفسير توضيحًا لمفهوم الهمس الذي حققتْه السين المهموسة، ما يأتي: (إنه وطء الأقدام إلى المحشر)، وأصل الهمس: الصوتُ الخفيّ، يقال:(هَمَسَ فلانٌ إلى فلان بحديثه): إذا أسرّه إليه، وأخفاه، ومنه قول الراجز:(وَهُـنَّ يَمْشِــينَ بنا هَمِيسًا..) ويعني بالهمس هنا: صوت أخفافِ الإبل في سيرها، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، ففي قوله عز وجل:(وخشعت الأصوات للرحمن) قالوا:(سكنت أصوات الخلائق للرحمن، فوصف الأصوات بالخشوع"، والمعنى: لأهلها، إنهم خُضُعٌ جميعُهم لربهم، فلا تسمع لناطق منهم منطقًا إلا من أذن له الرحمن)، كما حدَّث عليٌّ، عن ابن عباس قوله:(وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) يقول: سكنت، وقوله:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا(، يقول: إنه وطء الأقدام إلى المحشر، وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا)، قال: وطء الأقدام، وعن ابن عباس أيضًا في قوله:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) يقول: الصوت الخفي، وعن حميد، عن الحسن في قوله:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) قال: همسُ الأقدام، وعن قتادة:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) قال: كان الحسن يقول: وقع أقدام القوم، وعن مجاهد، في قوله:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) قال: تهافتًا، وقال: تخافت الكلام، وعن مجاهد قوله:(هَمْسا)، قال: خفض الصوت، وعن مجاهد، قال: خفض الصوت، قال: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كلام الإنسان لا تسمع تحرّكَ شفتيه، ولسانه فيه، وقال ابن زيد في قوله:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا)، يقول: لا تسمع إلا مشيًا، قال: المشي الهمس وطء الأقدام.

وكما نرى أن تفاسيرهم جاءت في دلالة الهمس أنها تكاد تجمع على أنه همسُ وقْعِ الأقدامِ، فلا قول، ولا لفظ، ولا كلمة، إنما هو صوتُ حركةِ القدم على الأرض عند المشي فقط، حيث لا ينبِس أحدٌ من الخلق بِبِنْتِ شَفَةٍ، ولا في وُسْعه الحديثُ، وإطالةُ القول؛ لأنه مقامُ الآخرة، وكلٌّ ماشٍ إلى أرض المحشر حيثُ الحسابُ، وتطايرُ الصحفِ، ومعرفةُ أهل الجنة من أهل النار، فكلٌّ مشغولٌ بنفسه، مفكرٌ في حاله، خائفٌ على مستقبله، راجٍ عفوَ ربِّه، منتظرٌ لحظةَ الحسابِ.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية