الاثنين 20 مايو 2024 م - 12 ذو القعدة 1445 هـ
أخبار عاجلة

فـي تحليل الحدث الجاري

الأربعاء - 08 مايو 2024 05:32 م

د.أحمد مصطفى أحمد

110

إذا كان من الصعب على الكاتب الصحفي أو المعلِّق والمحلِّل الإعلامي تناول الحدث الجاري والمتطوِّر باستمرار بأبعد من تفاصيله الآنية فإنَّ الأمر يكُونُ أكثر صعوبة على الباحث الأكاديمي. وبالتَّالي فإنَّ الحرب التي يشنُّها الاحتلال على الفلسطينيين في غزَّة وما زالت مستمرَّة منذ نحوِ سبعة أشهر تجعل التعمُّق في تحليلها واستخلاص النتائج أمرًا استثنائيُّا. لكن لأنَّ الصراع في المنطقة ممتدٌّ منذ عقود طويلة، ولأنَّ الحرب تأتي في سياق احتلال استيطاني عدواني بشكلٍ دائم ربَّما يكُونُ تحليل الحرب ومآلاتها مقبولًا بشكلٍ استثنائي.

وهكذا نجد أنَّه مع القتل والنار والدمار وآلاف الضحايا ومساحات الهدم في قِطاع غزَّة، لا يتوقف تناول الحرب على المقالات والتعليقات وإنَّما تصدر أيضًا الكتب التي تتصدى لجانبٍ من الصراع في ضوء سخونة المجازر وحرب الإبادة تلك. بعض تلك الكتب استهدف مسألة «المصطلح» في ضوء ما أحدثته الحرب من خلخلة واسعة في لُغة التواصل وتشكيل الرأي العامِّ. منها على سبيل المثال، كتاب الصحفي التونسي بسام بونني «عبارات الطوفان، حرب الكلمات والسرديات». ومع أنَّه من العنوان يبدو تركيزًا على عبارات شاعت من وسط القتل والدَّمار، إلَّا أنَّ الواضح أنَّ الكاتب بجهده الصحفي/البحثي وضعها في سياقات تجعل من كتابه وثيقة لشهور الحرب غير الإنسانية.

أمَّا ما يُمكِن اعتباره جهدًا أكاديميًّا استثنائيًّا لتحليلِ الحدَث الجاري فهو كتاب المفكِّر والأكاديمي المصري الدكتور نبيل عبد الفتاح الصادر مؤخرًا بعنوان «المقاومة والحُرية، غزَّة وسردية البطولة والإبادة» والصَّادر مؤخرًا أيضًا وانتهى منه كاتبه في الشهر الرابع من الحرب. ففي أقلّ من مئة وخمسين صفحة يجمع الأكاديمي المثابر جملة مقالات معمَّقة نشرها في أشْهُر الحرب الأولى واضعًا إيَّاها في سياق واحد يحاول استشفاف جذر الكارثة البَشَرية التي تعامل معها أغلب العالم بطريقة تنمُّ مع ما يقارب العنصرية. ويعرض أيضًا فيما يُشبه «الورقة البحثية المجزَّأة» للتغيُّرات التي جعلت الأمور تصل إلى هذا الحدِّ وتمكّن الاحتلال من شن حملة إبادة جماعية للفلسطينيين تحت بصر العالم، بل وبدعم وحتى تشجيع من قوَّة مؤيِّدة للاحتلال.

وكما يقول الكاتب في مقدِّمة كتابه: «أدَّت ـ ولا تــزال ـ الحــرب الوحشــية إلى انفجــار الكتابــات الغاضبــة، والتقييمــات الســريعة والتبســيطية الحاملــة لنزعــةٍ شــعاراتية وســطوة لُغــة المنشــورات والتغريــدات الوجيـزة وحالـة مـن اسـتهلاك الخِطـاب المرئـي المشـهدي عَبْرَ الفيديوهـات الوجيـزة جـدًّا عـلى مواقـع التواصـل الاجتماعـي عــلى نحــوٍ أدَّى إلى إغفــال بعضهــم للمقاربــات التحليليــة لقضايــا الحــرب وأبعادهــا ومآلاتهــا الجديــدة، أو الموروثــة ذات الجـذور التاريخيـة لخلفيـَّات وتطـوُّرات الصـراع العربي الإســرائيلي، وتداخلاتــه وتعقيداتــه الدوليــة والإقليميــة والعربيــة». صحيح أنَّه يصعب تمامًا الإلمام بكُلِّ تلك التداخلات والتعقيدات بين دفتَي كتاب، إلَّا أنَّ قدرة الدكتور نبيل عبد الفتاح على التعمُّق حتى في ظلِّ سخونة الوضع الآني جعلت ما جاء فيه مفيدًا، خصوصًا في تشريح الوضع العربي وبذور التوجُّه اليميني في قيادة الاحتلال وأيضًا في تركُّز أداة الفعل المقاوم فلسطينيًّا في حركتي حماس والجهاد في غزَّة.

وربَّما أراد الكاتب من قارئه، الذي اعتاد منه على الإنتاج الأقرب للأكاديمية، أن ينتبهَ لأنَّ مقالاته تلك على ما يبدو من برودها التحليلي الرَّصين هي أيضًا دفقة شعورية من إنسان عربي مهموم بقضايا وطنه. لذا فهو يعترف «أنَّ مجمــل أطروحــات الكتــاب يُمكِن اعتبارهــا ســردية ضِمــن ســرديات أخــرى حاولــت في مقارباتهــا لقضايــا الحــرب أن تنتصــرَ تحليليًّــا لثقافــة الحُريــة والمقاومــة والاســتقلال والتحــرُّر الوطنــي الفلســطيني، وحقِّــه المشــروع في إقامــة دَولتــه المســتقلَّة علــى الأراضــي التــي احتلَّــت بعــد عــدوان 5 يونيــو 1967، وعاصمتهـا القـدس الشـرقية. حاولنـا أن نعتصـمَ إلى حـدٍّ مـا بالموضوعيـة في المقاربـة والتحليـل والاسـتنتاج، وبعـض مـن المشـاعر التـي لا يُمكِن تحييدهـا تجـاه قضايـا حُرية الإنسان الفــرد، والشَّــعب المحتــلِّ في مقاومتــه مــن أجْــلِ تحــرُّره واســتقلاله أيًّــا كان انتمــاؤه العِرقــي أو الدِّينــي والمذهبــي أو القومــي أو مكانــه علــى خرائــط العــالم الجيــوسياســية؛ لأنَّهــا قضايــا إنسانية وأخلاقيــة بامتيــاز».

ربَّما يكُونُ من أهمِّ ما لفَتَ إليه الباحث في كتابه، على الأقلِّ من وجهة نظري بعد القراءة السريعة للكتاب، هو تأصيل ثقافة المقاومة مجددًا بعدما كاد الفقر السياسي والفكري العربي يطمسها تمامًا. ثم شرح الكاتب لعلاقةِ ذلك بالتوجُّه الديني الذي طغى في غياب الأيديولوجيا والسياسة بمكوِّناتها العلمانية وغيرها. وكيف أنَّ ذلك هو نتاج «التجريف» الذي أصاب العقل العربي نتيجة قمع الحُريات وإفلاس النُّخب الفكرية قَبل السياسية.

أمَّا الأجزاء التي تكشف النفاق الغربي وانهيار مقولات الديموقراطية وقواعد القانون في تعامل العالم مع حرب الإبادة في غزَّة فهي ربَّما لا تختلف عما يتناوله كثيرون، حتى من بعض الكتَّاب الغربيين الأصلاء الذين لم يعمِهم بعد الزيف والتضليل الصهيوني. لكنَّ المميز فيها أنَّ الكاتب يربطها ضمنًا أيضًا بتهوُّر الوصع العربي وليس فقط بتراجع غربي.

ويخلص الكاتب إلى أنَّه «تبــدو مــآلات الإبــادة والحــرب الإســرائيلية تفتــح بعــض الأبــواب لتغيُّــرات مســتقبلية في بعــض الــدوَل والمُجتمعــات العربيــة، في ظــلِّ التغيُّــرات الجيليــة الشَّــابة، وعســر الحيــاة وتفاقــم المشــكلات الاجتماعيــة والسياســية، وأثـر الثـورة الرقميـة عـلى هـذه الأجيـال وأيضًا عـلى الجمـوع الرقميــة العربيــة الغفيــرة وثــورة تطلُّعاتهــا نحــو الحُريــات والحيـاة الأقـلّ عسـرًا».

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري