الخميس 09 مايو 2024 م - 1 ذو القعدة 1445 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : تداعيات اتجاه المؤسسات الحكومية إلى استلطاف مشاهير الدعاية والإعلانات فـي نقل رسالتها للجمهور

في العمق : تداعيات اتجاه المؤسسات الحكومية إلى استلطاف مشاهير الدعاية والإعلانات فـي نقل رسالتها للجمهور
السبت - 27 أبريل 2024 04:44 م

د.رجب بن علي العويسي

90


يطرح اعتماد العديد من المؤسسات الحكومية على مشاهير الدعاية والإعلانات في التعريف ببرامجها ومبادراتها وأدوارها اليوم تساؤلات ونقاشات وردود أفعال متباينة، وينطلق من فرضية أن مشاهير المنصَّات الاجتماعية وناشطي الدعاية والإعلانات؛ هم حالة عرضية وظاهرة صوتية غير منظورة الاستدامة والتأثير، جاءت بفعل المُجتمع وصناعة التفاهة والتافهين وتنتهي هذه الحالة العرضية كلَّما زاد مستوى الوعي المُجتمعي بأفعال وممارسات هذه الفئة التي تثبت كلَّ يوم سقوط أقنعتها، ناهيك عن أنَّ زيادة عدد الداخلين في هذا المجال بدونِ قيدٍ أو شرطٍ بهدف الحصول على الكسب المادي السريع، والانطلاقة من الترند بهدف الوصول إلى الشهرة والتسلق على أكتاف الآخرين أصحاب الفضل وأدوات الإنجاز سوف تكُونُ له ردود فعل مقاومة في المُجتمع وعَبْرَ زيادة الأقلام والوسائط النقدية المضادَّة التي تفصح عن هشاشة هذه الفئة في التعامل مع الثوابت، ولذلك يتوقع أن تكُونَ الفترة المتاحة للمشهور أو المشهورة في ظل ما اتجهت إليه هذه الفئة من ممارسات والتزمته من سلوكيات تقاطعت مع القِيَم والمبادئ والهُوِيَّة الوطنية وعادات الناس وأخلاقها، متَّخذة من هوَس الشهرة وقاعدة خالِف تُعرف، طريقها لبلوغ الهدف والحصول على المكسب بات قليلًا جدًّا.

عليه، فإنَّ إسقاط هذه الفرضية على توجُّه المؤسسات نحو استلطاف مروِّجي الدعاية والإعلانات سوف يزيد من ضبابية الصورة التي تقدِّمها المؤسسات حول منجزها أو مبادراتها أو برامجها في افتقارها لفلسفة الاتصال والتواصل التفاعلي، المستشعر لدَوْر المواطن والمتقارب مع تلبية احتياجات المستفيد من خدمات المؤسسات، ويصبح ارتباطها بمُجتمع المؤسسة وتبنِّيهم لها، وانتقالها للمواطن وقدرتها على إحداث التغيير في حياة الناس وملامستها لأذواقهم أو ظروفهم وقضاياهم، في ظل شعور مُجتمع المؤسسة ومَن يعنيهم موضوع التوعية والتثقيف من هدرٍ للموارد الوطنية واستنزاف لها في ظل حجم ما يتحصل عليه هؤلاء المشاهير أو مروِّجو الإعلانات والدعاية من أموال، وما تضيفه هذه الإعلانات لهم من امتيازات ومكافآت وهبات وأموال طائلة، بينما يعيش مُجتمع المؤسسة ودوائر الإعلام والتواصل بها حالة من المنغِّصات في ظل اتساع سلسلة الإجراءات والتعقيدات التي يواجهونها في الحصول على الموافقات المالية لمجرد طباعة منشور أو تنفيذ برنامج إعلامي أو غيره، في حين تتفاعل المؤسسة وقيادتها مع مطالب المشاهير التي لا تنتهي، والمطالب التعجيزية التي يفرض فيها المشهور لغة المال على الواقع، بل ويفرض واقعًا جديدًا لإثبات مكانته وموقعه والزخم الذي يمنح له، ويفرض أفكاره وقراراته وطريقته وأسلوبه على المؤسسة.

إنَّ من جملة المخاطر والتداعيات السلبية الناتجة عن استلطاف المؤسسات لمشاهير الدعاية والإعلانات في نقل رسالتها للجمهور، والتي يجِبُ أن تنتبهَ إليها مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، خصوصًا في ظل غياب منظومة التقنين والضوابط التي يمارس خلالها المروِّجون دعاياتهم التجارية، هو أنَّ هذا الشغف باستحضار المشاهير للتعبير عن توجُّهات المؤسسة وبرامجها يؤدي إلى نتائج كارثية ومن بينها: الإقلال في كفاءة الكادر الإعلامي في المؤسسة وقائمة العاملين في قِطاع الإعلام والتواصل المُجتمعي بالمؤسسات بشكلٍ خاص لِيصبحَ دَوْرهم كوسيطٍ فقط، لا يتعدَّى رفد هذا المشهور بأدقِّ المعلومات والتفاصيل والبيانات والإحصائيات التي قد تكُونُ لها صفة السِّرية ومحدودية التداول داخل المؤسسة أو منحها لدوائر وأشخاص آخرين في المؤسسة، بينما يحصل عليها هذا المشهور مغلَّفة مختومة بالشمع الأحمر ومغلَّفة مع هدايا وهبات على طبَق من ذهبٍ، مع ما يُمكِن أن يترتبَ على الإفصاح عن هذه البيانات والمعلومات من مفاجآت يستغلها المشهور في الترويج لِنَفْسه، وكأنَّه صاحب السَّبق والمنَّة والفضل في إيفاد الجمهور بالمعلومات التي ينتظرونها قَبل أن تفصحَ عنها المؤسسة، الأمر الذي سيكُونُ له انعكاساته على ثقة المُجتمع في المؤسسات ذاتها والصورة التي تظهر بها أمام الجمهور، وما انتشار الهاشتاقات ووصولها إلى الترند عَبْر المنصة ( (X إلَّا جزء من هذه الضريبة التي دفعتها المؤسسات مقابل نشر إعلان لها عَبْرَ أحَد هؤلاء المشاهير لِيضافَ إلى رصيده المالي والهبات والامتيازات فرص أخرى مِثل: سرعة اللقاء بالمسؤول الحكومي والتواصل معه حول بعض التوجُّهات التي تريد المؤسسة أن تقومَ بها في إطار الدعاية والإعلان لِتصبَّ في سلة وحقيبة هذا المشهور بدون جهد أو الحاجة لانتظار الدَّوْر، وقد يصل الأمر إلى أنَّ المسؤول الحكومي يوجِّه بتسهيل مهمَّة هذا المشهور وتقديم كلِّ وسائل الدَّعم له في تخليص معاملاته وتبسيط الإجراءات له، وتجند المؤسسات وللأسف الشديد قدراتها لهذا المشهور أكثر من غيره من الكتَّاب أو الباحثين أو الأكاديميين، أو المحاضرين أو المدربين الذين يقدِّمون خدمات جليلة بدونِ مقابل أو بمقابل زهيد جدًّا.. فالحصول على المعلومات ممنوع، ومقابلة المسؤول صعبة في ظل ارتباطات المسؤول الحكومي وبرنامجه اليومي المزدحم ـ حسب رأي رئيس مكتبه أو المنسق ـ، وتقديم الطلبات يجِبُ أن يكُونَ وفق القانون واللوائح.

وبالإضافة على ما سبق ذكره فإنَّ من بين التداعيات الخطيرة الناتجة عن هذا التوجُّه، هو بقاء دوائر الإعلام والاتصال المُجتمعي بالمؤسسات في دَوْر المنتظر الذي يقف مكتوف الأيدي من تقديم مسار إعلامي وتثقفي وتوعوي يتجه للمُجتمع، الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيدٍ من الاتكالية ورفع سقف المبررات التي تتجه بالمؤسسة إلى الركود الفكري وغياب الإنتاجية المعرفية، ناهيك عن غياب الثقة في هذا العدد الكبير من الموظفين في عدم منحهم فرصة التعبير عن مؤسستهم والتسويق لها، رغم أنَّ ما يحملونه من خبرات ومهارات وقدرات واستعدادات وما يمتلكونه من أدوات التغيير والحفز، يفوق ما يمتلكه هؤلاء المشاهير، الذين كان انخراطهم في هذه المهمَّة بدافع مالي وشخصي، وليس فيما يمتلكونه من قدرات واستعدادات ومهارات، كما أنَّ اتجاه المؤسسات الحكومية لهذا الأمر في إطار حصول المشهور على المعلومات بيُسرٍ وسهولة يرتبط بغياب مستوى العُمق والتحليل والفَهْم وإدارة الحالة، فمشاهير المنصَّات الاجتماعية ظواهر صوتية كلامية، صراخ وضجيج، عمل قليل بمكبرات الصوت، وهو أمر لا يصنع المعرفة اليقينية، كما لا يصنع الموضوعية والشفافية ولا يحتكم للإرادة المُجتمعية، فكُلُّ الهدف من هذه الإعلانات إنَّما هو تحسين صورة المؤسسة، والعمل من طرف واحد وهو فرض لغة المؤسسة على الجمهور دون وجودِ خطٍّ آخر في الرسالة، بينما تقوم الرسالة الإعلامية والأخلاقية للمؤسسات على تحقيق التوازن بين ما تتحدث عنه المؤسسة وانتظار الرأي الآخر من الجمهور، أو تفتح آفاقه إلى مسارات وخيارات أوسع تجدد في ثقافة الفرد المواطن قيمة المشاركة والتسامح المعرفي المنطلق من توجيه بوصلة العمل نحو مصبِّ المؤسسة والارتقاء بها وإشراك مُجتمع المؤسسة والمُجتمع المحلي في قضايا، وهو أمر مفقود في طريقة عمل المشاهير والصورة التي يقدِّمونها حول المنجز المؤسسي، فهي صورة مبتورة ومضللة وغير واقعية تعتمد على الصراخ تدفعهم في ذلك رغبتهم في الضجيج، وشغفهم للإعجاب، ونشوتهم في تعليقات المتابعين، ليس بعمق طرحهم، أو جدِّية محتواهم، أو واقعية حديثهم، بقدر حبِّهم للظهور، وسرقة الأضواء، والدخول إلى باب الشهرة، والمنافسات العارية على حساب الجسد والقِيَم والأخلاق والهُوِيَّة، في رسم صورة مشوّهة لهذه المنصَّات، في فراغ المحتوى، وخداع المظاهر، حتى أصبحت مثارًا للضحك والهرج، والتهكُّم والسخرية، وليس العمق وقراءة ما بين السطور أو الفراسة والحدس في المكوِّن المعرفي المنطلق من التعريف بالمنجز المؤسسي، ولأنَّ لغة المشاهير قائمة على التسلق على أكتاف العمل المؤسسي والفردي والاجتماعي، لذلك يتَّجه الأمر إلى كونه دعاية إعلامية وقتية، وليس مساحة حوارية تتعايش خلالها المؤسسات مع الواقع وتستجلي من احتياجات الواقع وتشخيصه وفهم مدلولاته طريقها للنُّمو ومسارها للثبات.

أخيرًا، يبقى على مجلس الوزراء الموقَّر، في ظل ما بات يُشكِّله اتساع هذه الظاهرة من تداعيات إطلاق رصاصة الرحمة والموت البطيء على دوائر الإعلام والتواصل المُجتمعي بالمؤسسات، إلى تبنِّي سياسة وطنية واضحة في ضبط تعامل وتعاقد المؤسسات الحكومية مع مشاهير المنصَّات ومروِّجي الدعاية والإعلانات من خارج المؤسسات، ووضع الضوابط والشروط التقنينية، لِضَمانِ حماية المال العام ورفع درجة التوازنات في الرسالة التوعوية والتثقيفية ومصداقيتها ونزاهتها، والبحث عن مسار وطني أصيل في صناعة المشاهير والمؤثرين بالمؤسسات الحكومية والذين سينقلون المؤسسة بصورة أفضل ويقدِّمون معلومات وأفكارًا أجدر بالمتابعة والنقاش والاحتواء والتفاعل معها من قِبل الجمهور، ويعكس بِدَوْره نموذجًا أكثر اتزانًا ووعيًا ومهنية واحترامًا لِلقِيَم والذَّوق والاحتواء والمحافظة على الجهد المؤسسي الذي تقدِّمه دوائر الإعلام والتواصل المُجتمعي، من خلال العمل على وجود إطار وطني لصناعة المؤثرين الوطنيين الذين يحملون شرف الانتماء للوطن وأخلاق الإنسان الواعي ومنهج التربية السليم وروح التوازن الفكري والإعلاء من القِيَم المُجتمعية والسَّمت العُماني، واستقطاب القدرات التي تبرزها المنصَّات الفضائية بطريقة تضْمن قدرتها على التأثير الإيجابي، وعندها تصبح المؤسسات محطَّات لِصناعةِ التغيير فيما أنتجته من شخصيات وطنية قادرة على الإلهام والتأثير والاحتواء والدخول في واقع المُجتمع، فيتفاعل معها ويجدِّد التزامه بها ويؤسِّس بيئة عمل متفردة داعمة تنقل هذا التأثير إلى سلوك الجمهور وفكرهم، فتصنع القدوات، وتهذب السلوك، وتؤسس للأخلاقيات التي تبرز في قوالب عمل راقية تنشد الحُب للوطن والإخلاص له والتقدير لِمُنجزِه والاحترام لكفاءته، والمهنية في قراءة تاريخه وتراثه وهُوِيَّته ومنجزه.

د.رجب بن علي العويسي