الخميس 09 مايو 2024 م - 1 ذو القعدة 1445 هـ
أخبار عاجلة

نبض طبيب : بلوى المكانة الاجتماعية

نبض طبيب : بلوى المكانة الاجتماعية
السبت - 27 أبريل 2024 04:42 م

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

90

حضرتْ في ذاكرتي كميَّة الكتب المعاصرة التي تنادي كيف تصبح ذا مكانة اجتماعية؟ كيف تصبح مشهورًا؟ كيف تصبح غنيًّا؟ لِتجرَّ العقول باتجاه واقع مكلوم يئنُّ يدرك الإنسان ذاته بشرف المكانة والاعتبار ونظرة الآخرين البحتة لِيقسمَ الناس بعضهم بعضًا على درجات السلَّم الاجتماعي، فتراه يهرول في سَعْيه المحموم لِلحُصولِ على الحفاوة اللازمة مهما كلَّفه ثمنها من قلقٍ خبيث يبدِّد سكونه هذه المثالية الحالمة ذلك التعطش العاطفي داخلنا لِنبهرَ من حولنا ونجعلهم محور شعورنا بالرضا والمهانة. تبًّا لِزَمنٍ لا يُشبهنا، فكُلُّ هذا يضعنا في ارتباك أخلاقي وخوف من الخنوع لِمُسايرةِ معايير النجاح التي سطَّرها المُجتمع البرجوازي.

كما أنَّها حبكت المركز الاجتماعي والغنى بالكفاءة والجدارة، وربطت الإخفاق بالفقرِ فأصبح الذين يعيشون حياة اعتيادية خالية من الإنجازات والطموحات الكبيرة يشعرون بالدونية والفشل تجاه أنفسهم، وأضحت عادية الإنسان مرفوضة بأفكار تسيِّر حياته كالأعمى، وتثمِّن قيمته عَبْرَ سلسلة من البَشَر فتراه يصبو للتقديرِ من محيطه، فيقمع ذاته كأسيرِ انتظارٍ لاهتمام مبالغ من الآخرين وعنايتهم، فيتُوه في البحث عن ذاته في زمنٍ مفقود برحلة شقاء من التكلُّف والهوَس. تسلَّق قمَّة الهرم الاجتماعي، عزَّز القيمة والمكانة لِلبَشرِ بقشورٍ بالية، ولبَّى نداء الثورة الاستهلاكية المعاصرة على حساب القِيَم والأعراف الأخلاقية، وهو ما ضخَّمته شبكات التواصل الاجتماعي، فظهرت هيمنتها بتدهور قِيمة الإنسان، فتراه يهرول لإطراءِ غيرنا، يُبالغ في مظاهر الثراء بنشوةٍ وفخر ويقتني ما لا يحتاجه بطريقه استعراضية، ويلغي حقيقة وضعه المادي باقتناء ما هو فوق قدراته من أجْلِ حفنة مشاعر بالية تختفي وتدفعه لِمُواصلةِ رغباته الملحَّة في تأكيد نجاحه وتحقيق صورة وهمية لِرفْعتِه الطبقية.

يا ترى هذا الاهتمام المبالغ بمشاعر الآخرين نحونا هل سيؤثر على معتقداتنا تجاه أنْفُسنا؟

بلوى المكانة الاجتماعية جعلت تقييمات الآخرين تُحدِّد قِيمتنا الخاصَّة، لم نعُدْ ننحاز عاطفيًّا لأنْفُسنا، وأعدمت يقيننا بذاتنا، وأغرقتنا في دوَّامة المَحبَّة المشروطة من محيطنا برهاب يطحننا فيه الخوف والقلق، وهل في الحقيقة نحن بحاجةٍ لِنرَى أنْفُسنا بصورة أفضل من خلال الآخرين؟ ألَا يُمكِن أن نصنعَ لنَا اكتفاءً ومجدًا من نوع خاصٍّ يُغنينا ويتخطَّى حدود نظرة غيرنا لنَا؟ فتقصِّي آرائهم غالبًا سيكُونُ مخيبًا للآمال وتقييمهم العشوائي قابلًا لِلخطأ بثغراتٍ تنبع من نقيصة في ذواتهم وأنتَ وحدك تعرف نَفْسك ومداخلها، فلا تنتظر الاستحسان ولا الاستهجان، فارفع استحقاقك لِذَاتِك من آراء بَشَر لا تُغني ولا تذر.

لِكُلٍّ منَّا القدرة على الإنجاز والإبداع، كما أنَّه لا يُمكِن إنكار أنَّ شعور الاستحقاق من الفطرة الوجودية، ولا بأس في الطموح للأفضل، بل حبَّذا لو كان حاضرًا لِلجَميعِ، كما أنَّ الإنسان ليس بهذه المثالية ونَفْسه هشَّة بتعقيدات الحياة الاجتماعية، لذلك هذا الصراع الخالد باقٍ ما بَقِيَ الإنسان، ولكن وجَبَ أن نتعاملَ مع لعبة المكانة بكُلِّ نُبلٍ حتى تضيءَ حياتنا، ولا نجعلها هاجسًا يفقدنا سلامنا الداخلي. وتذكَّر أنَّ المكانة الاجتماعية تشتري لك نوعيْنِ من الاحترام، مِنه ما يدوم، ومِنه ما يختفي بمجرَّد أن تبلَى السُّلطة والمال؛ لذلك استثمِر بسخاءٍ فيما تُقدِّمه للناس، فلا تغرقْ في لعبة المكانة فتستنزفك فتؤول حياتك لعبةً خاسرة لا انتصار فيها. ضعْ طموحك للأفضل لِحياةٍ كريمةٍ، ولا تكُونُ قمَّة الهرم والخيلاء هدفًا وغاية تلهثُ خلْفَ ملذَّاتها، لا تضع نَفْسك في كفَّة ميزان مساومة مع البقية فتدخل في صراع مع نَفْسك، تذكَّر ستصل إلى مبتغاك بالصبر والعمل وليس بالهوَس، اجتهد ودَعْ مستقبلك لِلغَيبِ، وتذكَّر قول عيسى ابن مريم عليهما السَّلام: (طالب الدنيا مِثل شارب ماء البحر، كلَّما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتلَه) موسوعة ابن أبي الدنيا: 5/152.

لِتبعد السُّلطة والجاه والمال من سلَّم الأفضلية لديك قدر استطاعتك، فوجودنا في هذه الحياة ليس عبثيًّا وضع معايير واعتبارات قوله تعالى: (إنَّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم) التي تبصرنا بأنَّ القِيمة الأكبر التي نحيا من أجْلِها هي مكانتنا عندالله سبحانه وتعالى لِنتجاوزَ قلق المكانة الاجتماعية، ومهما حظِيَ الآخرون من السُّلطة والتبجيل نظلُّ متساوين بما تقدِّمه أيدينا أمام ربِّ الكون لِتكُونَ هي المفاضلة العادلة.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

طبيبة وكاتبة عمانية