الاثنين 06 مايو 2024 م - 27 شوال 1445 هـ
أخبار عاجلة

رحاب : تنظيف الذاكرة الباطنية

رحاب : تنظيف الذاكرة الباطنية
الأربعاء - 24 أبريل 2024 06:00 م

د ـ أحمد بن علي المعشني

50

منذ سنوات كنت أعمل في الكليَّة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا بصلالة، وكانت أول كليَّة خاصة في محافظة ظفار، ثم تطورت لاحقًا لتصبحَ جامعة ظفار الحالية، وكانت تلك الكليَّة تستقبل طلابًا وطالبات من جميع أنحاء سلطنة عمان، وكنت حينها أعمل مسؤولًا عن شؤون الطلبة، وكانت من بين مهامي مساعدة الطلبة وتقديم العون الإرشاد النفسي والتربوي لهم، وقد جاء إليَّ طالب يدرس بالسنة الثانية، استقبلته بالترحاب ووفرت له جوًّا من الطمأنينة و الخصوصية حتى يتحدث عن مشكلته في أمان، وقد أخبرني بأنَّه يعاني من حالة نفسية معقَّدة جدًّا، تمنعه من النوم نتيجة أفكار مخيفة تجعله أحيانًا يغيب عن محاضراته، وتمنعه من النوم والراحة، الأمر الذي جعله يفكر فعلًا في ترك الدراسة. وعندما طلبت منه الحديث عن حالته، أخبرني بأنَّه مسحور منذ سنوات طفولته الأولى، ولمَّا سألته عمن سحره؟ ذكَر أنَّ رجلًا عجوزًا من جيرانه عمل له سحرًا، وهنا سألته: هل العجوز الذي سحرك ضعيف أم قوي؟ أجاب: ضعيف جدًّا، ثم سألته: هل هو سعيد أم تعيس؟ قال هو تعيس! ثم سألته هل هو فقير أم غني؟ قال لي بأنَّه فقير، ثم سألته هل تَعدُّه شخصًا ناجحًا أخبرني طبعًا لا! ثم سألته: هل يسكن بيتًا أفضل من بيتكم؟ علمت من أنَّ بيته قديم وآيل للسقوط. وهنا سألته: هل تتوقع عجوزًا بهذه الصفات يستطيع أن يضرَّك أو ينفعَك؟ سكتَ الطالب قليلًا ثم أجابني: طبعًا لا! وهنا استطردت في الكلام: لو كان هذا الساحر قادرًا على التأثير لكانت أحواله وظروفه وحياته أفضل مما هي عليه الآن، لكنَّه بائس فقير، معدم ومريض؛ فكيف يمكنه إلحاق الضرر بك؟ ولكي أساعده عمدت إلى أسلوب العلاج المعرفي السلوكي ويتمثل في تغيير طريقة تفكيره وتنظيف الذاكرة الباطنية والتدريب على السلوك الإيجابي، طلبت منه أن يجلسَ في حالة مريحة، ويسمحَ لجسمه أن يسترخيَ ويتواصلَ مع جميع أعضائه لترتاحَ وتسترخيَ، وأن يتنفسَ بعُمق ثم يتواصل مع جميع حواسه، وينظِّفها عقليًّا من جميع الأفكار والطاقات السلبية، وأن يستغفرَ الله سبحانه وتعالى، ويتخيل أثناء ذلك أنَّ جميع المعلومات والأفكار السلبية وجميع الانطباعات السلبية والوساوس تخرج مع الزفير، ثم يفرغ عقله تمامًا. وكنتُ قد أحضرت كأسًا من الزجاج، وملأتها بالماء وألقيت فيها بعض قصاصات الأوراق وقطرات من الحبر وبعض الدبابيس، ثم سألته: كيف ترى الكأس الآن؟ أجاب: سائل متعفن ومُضِر. سألته: هل يمكنك أن تشربَه الآن؟ فردَّ باستهجان: طبعًا لا! وهنا سألته: هل يمكننا تنظيف هذا السائل وعزل العناصر الضارَّة منه؟ أجاب: ستكون عملية معقَّدة. فسألته: وما الحل في رأيك؟ أجاب: أن نتخلصَ منها ونعيدَها إلى حالتها السابقة؛ كأسًا نظيفة، ونملأها بماء رقراق صافٍ، شفَّاف لا لون له ولا طعم، ولا رائحة، يشربه الإنسان في اطمئنان وأمان. وهنا انتهزت الفرصة ووجَّهت كلامي إليه: هل يُمكِننا تشبيه عقلك بهذا الكأس الزجاجي؟ وهنا سكتَ، وتابعتُ حديثي معه قائلًا: عقلك عبارة عن وعاء عملاق يستقبل الأفكار والتأكيدات والصور والأصوات وكلَّ ثانية يستقبل كمًّا هائلًا من المعلومات، وليس لديه القدرة أو الوقت على تنظيفها وغربلتها للتخلص من الأفكار والخبرات والانطباعات السلبية، إلَّا إذا واظب على تنظيف عقله باستمرار من خلال حضور الوعي الإيجابي الفعَّال الذي يميِّز به بين الأفكار الإيجابية والسلبية، ويستطيع المسلم أن يواظبَ على الباقيات الصالحات (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) أو يكثر من الاستغفار مع حضور الوعي، وأن يتخيلَ نفسه أثناء ممارسة التأمل ينظف عقله بفرشاة ناعمة من النور ويتخلص تمامًا من العفن العقلي الذي من شأنه إذا تراكم أن يفسدَ حياة الشخص ومستقبله.

د. أحمد بن علي المعشني

 رئيس لأكاديمية النجاح للتنمية البشرية