السبت 27 يوليو 2024 م - 21 محرم 1446 هـ

في العمق : التحويلات المالية الخارجية للأيدي الوافدة وتداعياتها على المشهد الوطني

في العمق : التحويلات المالية الخارجية للأيدي الوافدة وتداعياتها على المشهد الوطني
الثلاثاء - 02 أبريل 2024 04:02 م

د.رجب بن علي العويسي

70

أشارت إحصائيَّة صادرة مؤخرًا من البنك المركزي العُماني إلى أنَّ حجم التحويلات الماليَّة للأيدي الوافدة خارج سلطنة عُمان بلغت في عام 2022 (3.488) مليار ريال عُماني بارتفاع بلغ (367) مليون ريال عُماني عن عام 2021، وقد شهدت التحويلات الماليَّة الخارجيَّة تراجعًا في الأعوام الثلاثة الأخيرة (2019ـ2021). ففي عام 2019 بلغت التحويلات الخارجيَّة (3.512) مليار ريال عُماني، بانخفاض (317) مليونًا عن عام 2018 الَّذي شهد ارتفاعًا بلغ (3.829) مليار ريال عُماني، وانخفض في عام 2020 بواقع (139) مليون ريال عُماني حيث بلغ (3.373) مليار ريال عُماني، وفي عام 2021 بلغ (3.121) مليار ريال عُماني بانخفاض بلغ (252) مليون ريال عُماني عن العام الَّذي قبله لِتعاودَ الارتفاع مرَّة أخرى في عام 2022.

على أنَّ مؤشِّرات عودة الارتفاع في التحويلات الماليَّة الخارجيَّة تضعنا أمام مشهد الأيدي الوافدة، الَّذي باتَ يُشكِّل هاجسًا في كُلِّ مجريات العمل الوطني وتفاصيله، وتحدِّيًا مرهقًا يجِبُ الخلاص مِنْه بأساليب وبرامج تعلوها الثِّقة في الكفاءة العُمانيَّة وفتح آفاق العمل والإنتاجيَّة لدَيْها، ومنحها مساحة أوسع في الدخول في ميدان الممارسة وقيادة الاقتصاد، وحضور لهَا في كُلِّ سلاسل الإنتاج لِضَمانِ الاعتماد على النَّفْس وإعادة تشكيل الواقع الاقتصادي بهُوِيَّة عُمانيَّة وبصناعات عُمانيَّة (100%)، وبالتَّالي البحث عن مسار وطني واضح يُحقِّق جملة من الأهداف الوطنيَّة في سبيل الخروج من الترهُّلات الاقتصاديَّة والجراثيم المرتبطة بالأيدي الوافدة، وفي الوقت نَفْسه المحافظة على سقف التوازنات التنمويَّة في قائمة المشروعات الاقتصاديَّة والإسكانيَّة وغيرها الَّتي تشهد طفرات متلاحقة في ظلِّ ما تقوم به الأيدي الوافدة من جهد ودعم، مع ضرورة العمل على الإحلال الاستراتيجي للقوى الوطنيَّة في كُلِّ خيوط الإمداد وخطوط الإنتاج وأدوات العمل واستراتيجيَّات الأداء، ما يعني أن يتَّجهَ العمل الوطني نَحْوَ ضبطِ وإعادة هيكلة ملف الأيدي الوافدة، والبحث عن إطار وطني يحدُّ من ارتفاع حجم التَّحويلات الماليَّة وتداعياته على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسُّلوك المعيشي للمواطن، وبالتَّالي ما يُمكِن أن تثيرَه مؤشِّرات الارتفاع في ظلِّ التركيبة التشغيليَّة لِسُوق العمل من قلق على الاقتصاد الوطني في عدم قدرته على توجيهِ هذه الأموال لِصَالحِ تنشيط الحركة الاقتصاديَّة ورفع درجة الاستحقاقات الوطنيَّة مِنْها، وفي ظلِّ غياب وجود آليَّات وضوابط تُعزِّز من الاستفادة من هذه الأموال قَبل ترحيلها، أو فرض ضرائب عَلَيْها لِصَالحِ تحقيق فرص تحوُّل إيجابيَّة في المسار الاقتصادي، ولعلَّ الصورة الذهنيَّة التراكميَّة الَّتي تؤصِّلها هذه التَّحويلات الماليَّة الخارجيَّة للوافدين في قناعات المواطن وشعوره بالمخاطر الَّتي باتَتْ تحملها الأيدي الوافدة على استقراره الاقتصادي والاجتماعي، ليس فقط في استحواذها على الموارد الوطنيَّة واستنزافها لهَا لِمَا تُشكِّله من رقم صعبٍ في التَّركيبة السكَّانيَّة، والعبء الَّذي باتَ يترتَّب على وجودها واستخدامها للخدمات التَّرفيهيَّة والطُّرق وغيرها؛ الأمْرُ الَّذي أدَّى إلى تحمُّل الدَّولة الكثير من المسؤوليَّات لِتَعزيزِ هذه الخدمات؛ بل أيضًا فيما يطرحه من تساؤلات ونقاشات في استحواذ الأيدي الوافدة على الوظائف الإداريَّة والفنيَّة العُليا والهندسة، وغياب وجود مسار وطني واضح للإحلال في ظلِّ تراكمات تسريح العُمانيِّين من القِطاع الخاصِّ الَّذي يشهد ارتفاعًا ملحوظًا حتَّى وصلَ إلى حالة التَّسريح الجمعي المُنظَّم أو كذلك ملف الباحثين عن عمل الَّذي يشهد أيضًا ارتفاعًا كبيرًا في أعداد الخرِّيجين من مخرجات الدبلوم العامِّ ومخرجات التَّعليم العالي والجامعات.

وبالتَّالي حجم الصورة السلبيَّة الَّتي باتَ يسقطها ملف الأيدي الوافدة على كُلِّ مناحي الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة للمواطن، لِيُضيفَ مؤشِّر الارتفاع فصلًا آخر من فصول المعاناة وكومة التَّداعيات الَّتي باتَتْ تدقُّ ناقوس الخطر، ويؤكِّد في الوقت نَفْسه على ضرورة العمل بأقصى سرعة ممكنة نَحْوَ تبنِّي إطار عمل وطني يحجم من دَوْر الأيدي الوافدة في إدارة الاقتصاد، أو يُحقِّق التَّوازنات بَيْنَ تمكين المواطن في وإثبات بصمة حضور لَهُ في القِطاعَيْنِ الخاصِّ والأهلي الَّذي يشهد عدد المواطنين الشَّباب فيه تراجعًا كبيرًا بسبب منغِّصات التَّسريح وغياب المتابعة والرقابة على التزام الشَّركات بالمحافظة على الاستحقاق الوطني وضمان استقرار القوى الوطنيَّة فيه، وكثرة المزاجيَّة التغييريَّة الحاصلة في هذا القِطاع من قبل الشَّركات وأصحاب الأعمال والَّتي تتقاطع مع التوَجُّهات الوطنيَّة بأن يكُونَ القِطاع الخاصُّ والأهلي الخيار الأوَّل للمواطن في ظلِّ تشبُّع القِطاع الحكومي، وداعمًا لِلمُواطنِ في إعادة إنتاج قناعاته وأفكاره ورفع درجة الطُّموحات لدَيْه، بحيث يشمل ذلك الحدَّ من ارتفاع أعداد الوافدين، ومنع الأيدي الوافدة السَّائبة واتِّخاذ إجراءات جزائيَّة وعقوبات أكثر صرامة نَحْوَها، وتفعيل العمل بالقوانين والأنظمة المرتبطة بمنع الاحتكار، والإجراءات المُتَّخذة مؤخرًا بشأن الحدِّ من التِّجارة المُستترة، ومعالجة كُلِّ التَّشريعات والقوانين واللوائح الَّتي باتَتْ تفتح أبواب الاستثناءات أو تقدِّم للأيدي الوافدة فُرصًا أكبر للاستقرار في سلطنة عُمان، وتلك المواد الواردة في قانون العمل والَّتي تحتفظ فيها الأيدي الوافدة بحقِّها في الانتقال إلى كفيل آخر بِدُونِ الرجوع للكفيل الأوَّل أو فاتورة السَّداد مسبقة الدَّفع الَّتي باتَ يدفعها المواطن بسبب هروب الأيدي الوافدة أو تسيُّبها بِدُونِ وجود إجراءات تأديبيَّة أو عقابيَّة تمنع الأيدي الوافدة الهاربة نهائيًّا من الدخول إلى أرض سلطنة عُمان، أو في ظلِّ غياب المصداقيَّة في الإفصاح عن أعداد الوافدين فيها.

وعَلَيْه، يفرض مؤشِّر الارتفاع في التَّحويلات الماليَّة الخارجيَّة، البحث عن خيارات وبدائل أوسع تضْمَن الاستدامة وتحافظ على الاستثمار في هذا المال، وتعزيز فرص الادخار لها داخل سلطنة عُمان، وتبنِّي سياسات اقتصاديَّة ترفع من سقف القوَّة الشرائيَّة للأيدي الوافدة تتنازل فيها عن التزامها مبدأ الأولويَّات في طريقة تسوُّقها والثقافة الشرائيَّة المتولِّدة لدَيْها، وبالتَّالي البحث عن كُلِّ الفرص الَّتي تضْمَن توطين هذه الموارد وتدويرها وإعادة إنتاجها والاستفادة القصوى مِنْها في الدَّاخل الوطني والحدَّ من خروجها خارج الدَّولة، موجّهات تُلقِي بظلالها على منظومة الإنتاج الوطنيَّة في توطين الصِّناعة والتِّجارة والاقتصاد ورفع درجة مساهمة القِطاعات الحيويَّة كالسِّياحة في الاقتصاد الوطني في ظلِّ ارتباطها المباشر بالسِّياحة الوافدة، وجهود سلطنة عُمان في رفع درجة مساهمتها في الاقتصاد الوطني، الأمْرُ الَّذي سيضْمَن الاحتفاظ بهذه الأموال وتدويرها داخل سلطنة عُمان، على أنَّ توطين الصِّناعات ورفع درجة مساهمة القوى الوطنيَّة في تشكيلها، سوف يضْمَن الحدَّ من هذه التَّحويلات الخارجيَّة، ويبقى دَوْر الحكومة وبمشاركة كُلِّ أطراف الإنتاج الاتِّفاق على سياسات واضحة ومشتركة ترفع من سقف الفُرَص الوطنيَّة المستفيدة من هذه التَّحويلات قبل خروجها عَبْرَ إعادة هيكلة سُوق العمل العُماني في القِطاع الخاصِّ والعائلي في العمل على خلق مساحة أكبر لِضَمانِ استيعاب القوى الوطنيَّة في قِطاعات الإنتاج وتعظيم حضورها في الشَّركات ومؤسَّسات الإنتاج، وتأكيد وجودها بشكلٍ كبير في المصانع كأعمدة إنتاج رئيسة، وعَبْرَ إيجاد آليَّات وطنيَّة جادَّة ومنتِجة وواقعيَّة ومستدامة وتحْظَى بالمزيد من المتابعة والرقابة في التَّعامل مع ملف الأيدي الوافدة.

إنَّ من بَيْنِ الخيارات ذات الأولويَّة في الحدِّ من ترحيل الأموال للخارج، يرتبط بأهمِّية إعادة النَّظر في مسار التَّعليم الوطني وتعزيز التَّنويع في المسارات، وأهمِّية إيجاد مُجتمع صناعي يمتلك أدوات الصِّناعة والإنتاج في المِهن الفنيَّة والهندسيَّة إذا ما سلَّمنا بأنَّ احتياجات سُوق العمل في القِطاع الخاصِّ والأهلي بحاجة إلى فئة العمالة الماهرة وشِبه الماهرة من مخرجات الأكاديميَّات المهنيَّة ـ الَّتي يجِبُ أن تراجعَ لِتَبدأَ من مرحلة التَّعليم الأساسي ـ أكثر من احتياجها إلى حمَلة المؤهّلات الجامعيَّة، الأمْرُ الَّذي سيضْمَن فتح المجال للمواطن في المنافسة أو وضع المواطن المستهلك أمام واقع وطني جديد تستحوذ فيه القوى الوطنيَّة على السُّوق خصوصًا في مجالات تمديدات الكهرباء والمياه، وإصلاح المكيِّفات وأجهزة التَّبريد، وهندسة السيَّارات، وقطع غيار المَركبات، وغيرها من المِهن الَّتي تمنح الداخل فيها وفرة ماليَّة مناسبة، بالإضافة إلى إلزام الشَّركات ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ بتوجيهِ الوظائف العُليا والهندسيَّة والإشرافيَّة فيها للكفاءات العُمانيَّة وبنسبة لا تقلُّ عن (80%) من الوظائف المشغولة فيها، كأحَد الحلول الَّتي تضْمَن التَّقليل من زيادة الأيدي الوافدة ذات الأجْر العالي، وفي الوقت نَفْسه فإنَّ اتِّخاذ هذه الإجراءات سوف يضْمَن تداول هذه الأموال داخليًّا من خلال معالجة مُشْكلة الباحثين عن عمل والمُسرَّحين والَّتي تُشكِّل اليوم رقمًا صعبًا في مُجتمع فتيٍّ، تُشكِّل الفئة من (0- 40) عامًا النِّسبة الأكبر فيه، بما يصل إلى (70%) من عدد السكَّان.

أخيرًا، فإنَّ تداخل هذا الملف وتشعُّبه في كُلِّ مجريات العمل الوطني، بحاجة إلى قراءة معمَّقة لمدخلات هذا الارتفاع في مؤشِّرات التَّحويلات الماليَّة الخارجيَّة، بصورة أكثر شفافيَّة ووضوحًا تضع جميع أطراف الإنتاج أمام الصُّورة الكاملة، لِلوُصولِ إلى قرار استراتيجي وطني يحافظ على درجة التَّوازنات في السُّوق الوطنيَّة، ويرفع من سقفِ مساهمة القِطاع الخاصِّ والأهلي في منظومة الإنتاج، مع ضمان استحقاقات المواطن في التَّوظيف والتَّشغيل واستحواذه على الوظائف العُليا الإداريَّة والإشرافيَّة والفنيَّة والهندسيَّة حاضرة، وضمان انتصار رؤية التَّمكين للاقتصاد الوطني والكفاءة العُمانيَّة وتحقّق مستهدفات رؤية «عُمان 2040» فيه، منطلقات مُهِمَّة أمام الحكومة في استثمار ذلك في عمليَّات التَّوعية والتَّثقيف والتَّعليم والتَّدريب، وترسيخ المسؤوليَّة الوطنيَّة المشتركة في العمل معا نَحْوَ إعادة تصحيح هذا الملف، وتحديد موقع المواطن فيه كشريك مساهم في رسم خريطة المعالجة، بما يضْمَن بقاء السُّيولة النقديَّة لدى المواطن حاضرة من خلال نشاطه في العمل الحُر والمؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة، ومشاركته في الحدِّ من الأيدي الوافدة السَّائبة وسُوق التِّجارة المُستترة، في ظلِّ تراكم المعطيات والمخاطر المرتبطة بالأيدي الوافدة على الأمن الاقتصادي والاجتماعي والهُوِيَّة والقِيَم والسَّمت العُماني.

د.رجب بن علي العويسي