لقد حققت سلطنة عُمان طفرة اقتصاديَّة كبرى على أكثر من صعيد، طفرة يشهد بها القاصي والدَّاني، خصوصًا الوكالات والمؤسَّسات الائتمانيَّة والاقتصاديَّة المتخصِّصة؛ فالتقدُّم الاقتصادي تحوَّل إلى واقع تحوُّلات ملموسة باتتْ واضحة في طريقة إدارة الاقتصاد، وفي لُغة الأرقام، وفي مزاج السوق نفسه. وبطبيعة عملي، فأنا متابع جيِّد للمشهد الاقتصادي العُماني منذ سنوات، وأرى بوضوح أنَّ ما يتشكل اليوم يختلف جذريًّا عن مراحل سابقة كانت الأخبار الاقتصاديَّة فيها أقرب إلى رسائل طمأنة أكثر من كونها مؤشِّرات تموضع فعلي؛ فالمشهد الحالي يَقُوم على مسار إصلاحي متكامل، يتقدم بهدوء، ويعتمد على ضبط الإيقاع المالي وإعادة ترتيب الأولويَّات بعيدًا عن الاندفاع والمجازفة.
واللافت في هذه المرحلة أنَّ الدولة خرجت من دائرة إدارة الطوارئ إلى فضاء إدارة الفرص، وهو تحوُّل عميق في فلسفة العمل الاقتصادي. فالمميز هو أنَّ القفزة الحاليَّة تنعكس في ثقة المستثمر، وفي عودة النفَس الطويل للتخطيط، وفي شعور عام بأنَّ الاقتصاد يتحرك وفْقَ بوصلة واضحة تَقُود القرار وتمنحه اتساقًا واستقرارًا، عند هذه النقطة يتضح الفرق بَيْنَ تحسُّن عابر ومسار نهضة متجددة قابل للاستمرار.
إنَّ أهم ما يلفت الانتباه في التطور الاقتصادي الَّذي تشهده سلطنة عُمان أنَّه تخطَّى أُسلوب قراءة المؤشِّرات، وباتَ مرتبطًا بتغيير فعلي في النموذج الَّذي تُدار به الدولة اقتصاديًّا. فالتحسُّن لم يَعُدْ محصورًا في أرقام صماء أو تقارير دوريَّة، وإنَّما انعكس في طريقة التفكير، وفي فلسفة القرار، وفي ترتيب الأولويَّات داخل المنظومة الماليَّة والاقتصاديَّة، وهو ما يظهر في تبنِّي منطق الانضباط الذَّكي، حيثُ أصبحت الاستدامة معيارًا حاكمًا للسياسات، وتقدَّمت الكفاءة على السرعة، وأُعيد ضبط العلاقة بَيْنَ الإنفاق العام والعائد الاقتصادي. ومن زاويتي كمراقب للمشهد منذ سنوات، أرى أنَّ الدولة أعادت تعريف دَوْرها داخل الاقتصاد، فانتقلت نَحْوَ موقع المنظِّم والمحرِّك للسوق، بما أتاح مساحة أوسع لحركة القِطاع الخاص، وخلق توازنًا أدق بَيْنَ متطلبات الحماية وضرورات الانفتاح، وهي مقاربة عبقريَّة منحت الاقتصاد مرونة أعلى في مواجهة التقلبات، وأسَّست لبيئة أكثر جاذبيَّة للاستثمار النَّوعي طويل الأجل، وأسهمت في تشكيل ملامح اقتصاد أكثر نضجًا، يعرف اتجاهه ويدير خطواته بثقة محسوبة.
إنَّ التقدم المحرز في مسار التنويع الاقتصادي يظهر اليوم كخبرة سوقيَّة محسوسة، تخطَّت الرؤية النظريَّة، أو التعامل معه كهدف مؤجل. وما ألمسُه عن قرب أنَّ التنويع خرج من إطار الوثائق والخطط إلى سلوك استثماري طبيعي، حيثُ بدأت القِطاعات غير النفطيَّة تفرض حضورها بوصفها محركات نُمو حقيقيَّة، لا بدائل ظرفيَّة، وقِطاعات الصناعة، والسياحة، والخدمات اللوجستيَّة، والطاقة المتجدِّدة تتحرك ضِمن منظومة مترابطة، تخلق فرص عمل، وتبني سلاسل قيمة، وتفتح آفاقًا أوسع أمام المحتوى المحلِّي. هذا التحوُّل يعكس نضجًا في طريقة إدارة التنويع، حيثُ أصبح التركيز منصبًّا على بناء بيئة تمكينيَّة تسمح للسوق باختيار مساراته بثقة، كما أرى أنَّ نجاح التنويع يقاس بقدرته على جذب استثمارات طويلة الأجل، وبمدى استعداد الشركات المحليَّة للتوسُّع والتصدير، وبقدرة الاقتصاد على توليد نُمو متوازن يقلِّل من حساسيَّته للصدمات الخارجيَّة، ويمنحه قاعدة أكثر صلابة واستقرارًا، وهو ما نراه من توسُّع لتلك النشاطات، خصوصًا قِطاع الصناعة الَّذي تتمدد مُدنه طرديًّا.
إنَّ النُّمو الصناعي اللافت الَّذي تشهده السلطنة يُمثِّل في تقديري المتواضع التعبير الأوضح عن جديَّة التحوُّل الاقتصادي؛ لأنَّه ينقل الاقتصاد من خانة الاستهلاك إلى فضاء الإنتاج الحقيقي؛ فما نراه اليوم هو توسُّع صناعي منظَّم يَقُوم على بناء طاقات إنتاجيَّة مستدامة، ويرتبط بسلاسل إمداد ولوجستيَّات وموانئ ومناطق صناعيَّة تتحرك في اتِّجاه واحد. فالمُدن الصناعيَّة تحوَّلت إلى منصَّات قِيمة مضافة تستقطب استثمارات نوعيَّة، وتخلق وظائف مستقرة، وتراكم معرفة صناعيَّة تمتد آثارها عَبْرَ الزمن. هذا النُّمو يعزز قدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات، ويمنحه مصادر دخل أكثر تنوعًا، ويمنح الشركات المحليَّة فرصة للاندماج داخل منظومات إنتاج أوسع. من زاويتي الشخصيَّة، أرى أنَّ الصناعة أصبحت ركيزة توازن في الاقتصاد العُماني، ترفع من جودة النُّمو، وتحدُّ من التقلب، وتؤسِّس لمرحلة تعتمد على العمل والإنتاج والانضباط، لا على الظرفيَّة أو الاندفاع، وعند هذه النقطة تكتمل صورة التحوُّل، اقتصاد يبني قوَّته بهدوء، ويصنع مكانته بثقة، ويمضي إلى الأمام بخُطى محسوبة.
إبراهيم بدوي