الثلاثاء 23 ديسمبر 2025 م - 2 رجب 1447 هـ
أخبار عاجلة

حين تتحسن المؤشرات.. ويتباطأ الإحساس بها

حين تتحسن المؤشرات.. ويتباطأ الإحساس بها
الثلاثاء - 23 ديسمبر 2025 08:45 ص

إبراهيم بدوي


أتابع الأخبار الاقتصاديَّة يومًا بعد يوم، أسمع كلمات مثل تحسُّن، تَنامٍ، نُمو، ثم أنظر إلى محفظتي الشخصيَّة فلا أجد ما يعكس كُلَّ هذا التفاؤل المعلن، هذا الانطباع لم يتكوَّنْ لديَّ وحدي، هو خلاصة أحاديث متكررة مع أشخاص من جنسيَّات مختلفة، يُقِيم بعضهم داخل أكبر اقتصادات العالم! أنا لا أشكك في الأرقام الرسميَّة الصادرة عن الحكومات أو الهيئات الدوليَّة، لا سمح الله، ولا أطعن في دقَّتها، غير أنَّ السؤال يفرض نفسه بهدوء حَوْلَ إذا كانت المؤشِّرات بهذا القدر من الإيجابيَّة، فلماذا يتشابه شعور الغالبيَّة في كُلِّ مكان في المعمورة؟ ولماذا يبدو الرضا الاقتصادي حكرًا على نسبة ضئيلة من سكان المعمورة؟ الرواتب لا تنمو بالوتيرة ذاتها، والقدرة على مواجهة غول التضخم تتآكل تدريجيًّا، بَيْنَما تمضي الحياة بإيقاع آخر، أبطأ وأكثر حذرًا، يُقاس بتفاصيل لا تدخل في الجداول، مثل حسابات مؤجَّلة، أولويَّات يُعاد ترتيبها، وشعور خافت بأنَّ شيئًا ما لا يصل كما ينبغي، هذا الإحساس لا يرتبط ببلد بِعَيْنه ولا بظرف استثنائي، هو حالة إنسانيَّة ترتبط بزماننا الخالي، وتتكرر حين تبدو المؤشِّرات واثقة، بَيْنَما يزداد الواقع المعيشي قسوةً. من هذا المنطلَق يطلُّ علينا سؤال وجيه، لا يتعلق بصحَّة الأرقام، لكن عن صلتها بالإنسان، وعن اللحظة الَّتي يتحول فيها التحسُّن المعلن إلى طمأنينة فعليَّة يشعر بها من يعيشون خارج التقارير.

أعتقد أنَّ في الحياة اليوميَّة، تفقد تلك المؤشِّرات الاقتصاديَّة قدرتها على الإقناع؛ لأنَّها تُقاس من خارج التجربة الإنسانيَّة. فالناس لا تعيش داخل متوسِّطات النُّمو ولا تتحرك وفْقَ المنحنيات الصاعدة، تعيش داخل هامش ضيق من الدخل والالتزامات الَّتي تزيد بشكلٍ متسارع، وتختبر الاقتصاد بوصفه ضغطًا متراكمًا لا رقمًا مجرَّدًا، فحين يعلن عن تحسُّن كُلِّي، لا يصل هذا التحسُّن بالضرورة إلى مستوى الفرد، ولا يترجم تلقائيًّا إلى قدرة أعلى على الادخار أو شعور أوسع بالأمان، إلَّا مَن رحم ربِّي، فالرواتب تظلُّ ثابتة أو بطيئة الحركة، بَيْنَما تكاليف المعيشة تتحرك بثبات نَحْوَ الأعلى، فتتشكَّل فجوة صامتة بَيْنَ الخِطاب الاقتصادي والواقع المعيشي. في هذه الفجوة، يتعلم الإنسان فنَّ التكيُّف القاسي، حيثُ يؤجّل ما يُمكِن تأجيله، يُعِيد ترتيب أولويَّاته، ويخفّف سقف توقُّعاته بدافع الضرورة، لا القناعة الَّتي نتمنَّى أن تكُونَ كنزًا لا يفنى، كما يقول المَثل العربي.

تتعمق هذه الفجوة أكثر حين نضع في الاعتبار اختلاف الإيقاع بَيْنَ ما يتحرك على مستوى السياسات، وما يعاش على مستوى الأفراد. فالاقتصاد الكُلِّي يعمل بمنطق الزمن الطويل، يراكم نتائجه عَبْرَ سنوات، ويقيس نجاحه بمؤشِّرات تمتدُّ إلى المستقبل، بَيْنَما يعيش الإنسان داخل زمن قصير ومكثَّف، تحكمه التزامات شهريَّة وضغوط لا تحتمل الانتظار.. وهنا لا أتَّهم نيَّات السياسات، ولا دقَّة الحسابات، مهما كان توجُّهها الآيديولوجي، لكن انظر بتمعُّن إلى نقطة الالتقاء بَيْنَ المسارَيْنِ، فالتحسُّن قد يكُونُ حقيقيًّا في مساره العام، غير أنَّ أثَره يظلُّ مؤجلًا أو متآكلًا عِندَ لحظة وصوله إلى الناس، هذا التأخير المستمر يصنع شعورًا عامًّا بأنَّ الاقتصاد قصَّة تُروى من الخارج، لا تجربة يشارك فيها الجميع، ومع تكرار المشهد يتحول الانتظار إلى حالة دائمة، ويتحول التكيُّف إلى نمط حياة، بوصفه استجابة اضطراريَّة لعالم يتحسن في العناوين ويتباطأ في الواقع، لِيثقلَ كاهل مُعْظم البشر، ولم تحبلْ أفكار الخبراء والاقتصاديين بخطط وبرامج تعالج هذا القصور، خصوصًا أصحاب النظريَّات الرأسماليَّة.

إنَّ سؤال المعنى يفرض نفسه بوضوح: فما جدوى النُّمو حين يعجز عن تخفيف القلق اليومي لدى البشر؟ وما جدوى تقدُّم الأوطان والناس تقف «محلك سر»؟ وما قِيمة التقدُّم حين يبقى أثَره محصورًا داخل التقارير، أو لدى فئات بِعَيْنها؟ فالاقتصاد في جوهره فعل إنساني قَبل أن يكُونَ معادلة رياضيَّة، ونجاحه الحقيقي يُقاس بسلامة المؤشِّرات، وبقدرته على توفير حدٍّ معقول من الطمأنينة والاستقرار لِمَن يَدُورون داخل عجَلة الحياة اليوميَّة. فالأدوات الاقتصاديَّة التقليديَّة، مهما بلغت دقَّتها، أثبتت محدوديَّتها في ردم الفجوة بَيْنَ التحسُّن الكُلِّي والواقع المعيشي؛ لأنَّها تتعامل مع الإنسان بوصفه نتيجة لاحقة لا نقطة انطلاق، هذا يأتي نتيجة غياب رؤية تضع العدالة المعيشيَّة في قلب السياسات لا على هامشها، وعند هذه النقطة يصبح السؤال أعمق من البحث عن حلول تقنيَّة، ويتحول إلى تساؤل أخلاقي وفكري حَوْلَ طبيعة النُّمو الَّذي نريده، ونوع الاقتصاد القادر على أن يشعرَ الإنسان بأنَّه شريك في التحسُّن، لا متفرجًا عليه.

إبراهيم بدوي

[email protected]