قَبل عام 1840، تمتد حوالي ألفَي سنَة اعتمد خلالها العقل الغربي على ثلاثة مصادر للحصول على بيانات حَوْلَ بلاد الرافدين، وهي: (1) الكِتاب المقدَّس (2) تواريخ الإغريق و(3) تواريخ الرومان، زيادة على بقايا من كتابات بيروسوس (Berosus)، وهو رجُل بابلي كان يكتب باللُّغة الإغريقيَّة. ولكن حتَّى عام 1800 لم يتجاوز تراكم المعلومات حَوْلَ هذه البلاد كثيرًا عمَّا كانت عليه عام 800 بعد الميلاد على الرغم من أنَّ هذا الكم القديم كان قد خدم محركًا قويًّا للخيال الغربي لدى الشعراء والفنَّانين، كما تبلوَر ذلك في قصيدة ساردانا بالوس “Sardanapalus” بقلم الشاعر الرومانسي المعروف اللورد بايرون Byron الَّذي كتب هذا العمل الشعري عام 1821.
وباستثناء الإشارة إلى بناء برج بابل، فإنَّ العهد القديم لا يذكر شيئًا عن بلاد الرافدين إلَّا بقدر تعلُّق الأمر بتأثير ملوك بلاد آشور وبلاد بابل على الأحداث المتعلقة بمملكتي «إسرائيل» و»يهوذا»، وخصوصًا بقدر تعلُّق الأمر بالملوك «تجلات بليسر الثالث «Tiglath-Pileser III، وسنحاريب Sennacherib، وشلمنصر الخامس Shalmaneser (V)، المدفونين في العراق، كما هي عليه الحال مع قبر وكنيس النَّبي ذي الكفل الموجود على مقربة من النَّجف الأشرف على الفرات الأوسط، ولم تزل بعض ممتلكات اليهود العراقيين موجودة هناك، كما هي موجودة في بقيَّة المُدُن العراقيَّة كبغداد والبصرة.
هذا التشوق الغربي لأرض الرافدين ولرائحة التاريخ الدِّيني والقصص التوراتي والإنجيلي أخذ يستقطب عقولًا ذكيَّة عديدة، حيثُ ركَّز التشوق على هذا الإقليم بشكلٍ يفوق تركيزها على سواه من الأقاليم، الأمر الَّذي برَّر تزايد أدب الارتحال الأوروبي المبكر إلى العراق، وهو أدب وصفي مشحون بالمشاعر الرومانسيَّة والعواطف الدِّينيَّة، ثم ما ثبت المرتحلون أن استحالوا إلى منقِّبين آثاريين من النوع الدِّيني الباحث عن أقدم الوثائق والمخطوطات والبقايا واللُّقى ذات المغزى الدِّيني أو التاريخي، وهكذا بدأ أول ملامح يقظة الاهتمام بالشرق الأوسط في العراق وليس في سواه من البلدان، وهي اليقظة الَّتي أطلق عليها الباحث الأوروبي الفذُّ ريمون شوا (Raymond Schwab) تسمية النهضة الاستشراقيَّة(Oriental Renaissance) حيثُ بدأت قصَّة الاهتمام الأوروبي المبكر بالارتحال إلى أرض الرافدين وبالتنقيب في تربتها بحثًا عمَّا يؤيد القصص الإنجيلي. لذا فقد ظهر أوائل الرحالة الأوروبيين في العراق، استثناء عن جميع أقاليم الشرق الأخرى، إذ جاء رجال مغامرون ليعملوا في العراق كمنقِّبين في مواقع بقايا أقدم الحضارات في التاريخ، كالبابليَّة والآشوريَّة والكلديَّة والسومريَّة والأكديَّة، من بَيْنِ حضارات قديمة أخرى ظهرت وازدهرت هنا ثم تلاشت واختفت تحت التراب.
والحقيقة، فإنَّه باستثناء الإشارة إلى بناء برج بابل، فإنَّ العهد القديم لا يذكُر شيئًا عن بلاد الرافدين إلَّا بقدر تعلُّق الأمر بتأثير ملوك بلاد آشور وبلاد بابل على الأحداث المتعلقة بمملكتي «إسرائيل» و»يهوذا»، خصوصًا بقدر تعلُّق الأمر ببعض الأباطرة العراقيين! أمَّا الكاتب الإغريقي هيرودتس (Herodotus of Halicarnassu) في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد كان من أوائل الَّذين كتبوا عن بابل وبقيَّة بلاد آشور، في وقت كانت فيه الإمبراطوريَّة الآشوريَّة قد سقطت قَبل ذاك التاريخ بمئة عام، أمَّا الكاتب الأثيني زينوفون(Xenophon) فإنَّه قد أسهم شخصيًّا في حملة جماعيَّة (بَيْنَ عامَي 399 و401 قبل الميلاد) مع أعداد من المرتزقة الإغريق للعبور عَبْرَ هضبة الأناضول وللنزول إلى نهر الفرات حتَّى منطقة قريبة من بغداد اليوم، حيثُ أقفلوا راجعين شمالًا في تتبع مجرى نهر دجلة.
في مؤلَّفه سايروباديا (Cropedia) يصف زينوفون آخر المعارك بَيْنَ الملك سايروس الثاني (Cyrus) والإمبراطوريَّة البابليَّة الثانية، ولكن في هذا العمل التاريخي المُهمِّ، عمد الإغريق إلى أنواع القصص الخيالي والحكايات الأسطوريَّة التشكيل رؤية عجائبيَّة عن بلاد الرافدين، وبخاصَّة عن الملك نينوس (Ninus) والملكة سميراميس (Semiramin) والملك ساردانا بالوس (Sardanapalus). ، علمًا أنَّه قد ظهرت هذه القصص في أحد التواريخ الإغريقيَّة القديمة الَّتي تعود إلى القرن الأول بعد الميلاد اعتمادًا على تقارير كتَبها الطبيب الإغريقي ستيسياس (Ctesias) لقد زار هیرودتس بابل شخصيًّا، بَيْنَما جهزنا زينوفون بوصف للرحلات الأوروبيَّة إلى العراق مع تقارير عن المعارك الَّتي صادفته عَبْرَ رحلته، جميع هذه الكتابات اعتمدت المصادر غير المباشرة، باستثناء مؤلَّفات الرجُل البابلي الَّذي تمت الإشارة إليه أعلاه بيروسوس (المولود عام 340 قبل الميلاد حيثُ إنَّه قد هاجر بعد بلوغه الشيخوخة إلى جزيرة كوس (Cos) في بحر إيجة بَيْنَ تركيا واليونان اليوم، إذ إنَّه ألَّف ثلاثة كتُب بعنوان بابلونياكا (Babyloniaka)، ولكن لسوء الحظ لم يتبقَّ من هذه المؤلَّفات التاريخيَّة المهمَّة إلَّا بضعة صفحات متهرئة.
عمل هذا الكاتب البابلي، بيروسوس، بعد وصوله الجزيرة أعلاه على الرد على المؤرخين الإغريق الَّذين شوَّهوا التاريخ أو حرَّفوا حقائقه، ملاحظًا أنَّه ليست سميراميس هي الملكة الَّتي أسَّست مدينة بابل، كما أشاع هؤلاء المؤرخون خطأ. وقد كرَّس كِتابه الأول لقصَّة بداية خلق العالم مباشرًا ذلك بأسطورة الكائن المركب أوانيس (Cannes)، المتشكل من نصف سمكة ونصف إنسان والَّذي وصل إلى سواحل بلاد بابل في وقت كان البشر فيه يعيشون كالوحوش. لقد علَّم «أوانيس» البشر البدائيين هناك (بحسب هذه الرواية الأسطوريَّة أصول الحضارة، وهي: الكتابة والفنون والقانون والزراعة وعِلم المساحة وفنّ العمارة. أمَّا كِتابه الثاني فقد احتوى على قائمة بأسماء الملوك البابليين من البداية حتَّى عهد الملك نبوخذ نصر (Nabonisar) 734-747 ق.م. كما خصَّ بيروسوس كِتابه الثالث لتناول تاريخ بلاد بابل من عهد نبوخذ نصر إلى تاريخ تأليف الكِتاب نفسه.
الطريف في الأمر هو أنَّ هذا الكاتب البابلي قد تفوق على المؤرخين الإغريق في الدقَّة، خصوصًا من النواحي الوصفيَّة والجغرافيَّة، وقد لاحظ رابي يهودي من مدينة نفار (Navarre) الإسبانيَّة واسمه بنجامين توديلا (Tudela) أثناء رحلته إلى العراق بَيْنَ ١١٦٠ و١١٧٣ أنَّ المُسلِمِين والمسيحيين في المنطقة كانوا يعرفون أهم المواقع الأثريَّة بدقَّة متناهية. بَيْدَ أنَّ الفضل الحقيقي في اكتشاف بقايا بابل يعود إلى الإيطالي بيترو ديلا فال (Pietro Della Valle) الَّذي حدَّد على نَحْوِ التيقُّن منطقة البقايا الأثريَّة لمدينة بابل شمال مدينة الحلَّة (حوالي ٩٠ كم جنوب بغداد، مستمكنًا شكلًا مستطيلًا واسعًا لبقايا «برج بابل»، يُمثِّل الزقورة، ولكن قَبل هذا الرجُل، كان المرتحلون الأوروبيون يبحثون عن برج بابل في مواقع أثريَّة أخرى خطأ.
هذا الآثاري الإيطالي أخذ معه إلى أوروبا أول نماذج الكتابة المسماريَّة Cuneform المكتشفة والمطبوعة على الطابوق البناء المصنوعة من الطين المشوي)، حيثُ راحت الأشكال المسماريَّة تترك انطباعات جماليَّة واسعة بَيْنَ الرحَّالة الأوروبيين، الأمر الَّذي شجَّع أعدادًا كبيرة أخرى من المرتحلين للذهاب إلى بلاد الرافدين على نَحْوٍ متزايد، فكان من أبرز هؤلاء المرتحلین كارستن نیبور (Carsten (Niebuor) وهو رحَّالة ألماني عاش في القرن الثامن عشر الميلادي، إضافة إلى الرحَّالة كلوديس جيمس رج في القرن التاسع عشر والرحَّالة كير بورتر (Ker Porter) في القرن التاسع عشر كذلك، وبالمناسبة، فإنَّ لفظة الكتابة المسماريَّة كيونيفورم (Cuneiform) قد كانت من ابتكار الرحَّالة الإنجليزي توماس هايد (Hyde) أواسط القرن الثامن عشر، بَيْنَما تحققت أول محاولة لفكِّ رموز هذه الكتابة على أيدي عالم اللُّغة الألماني جورج فردریش جروتقيند (Grotefend) عام 1802، باستخدام أسماء الملوك كدلائل، علمًا أنَّ بقيَّة رحلة فك رموز الكتابة المسماريَّة قد تواصلت بعد جهود هذا العالم الجليل لِتشكلَ نظامًا علميًّا لُغويًّا مستقلًّا. بذاته، بخاصَّة بعد النتائج المذهلة الَّتي توصَّل إليها علماء آخرون مثل أميل بورنوف (Burnouf)، والسير هنري راولنسون (Rawlinson)، وإدوارد هنكس (Hincks)، من بَيْنِ علماء آخرين.
وهكذا تطورت الدراسات العلميَّة الخاصَّة ببلاد الرافدين، إذ سُميت بأسماء الحضارات العراقيَّة القديمة أو بأسماء المواقع الآثاريَّة، وهي أسماء علوم مثل (الآشوريَّات) و«السومريَّات والبابليَّات» من بَيْنِ تشعُّبات لأنظمة علميَّة آثاريَّة رئيسة.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي