تطرَّقنا في مقالنا السابق حَوْلَ أبرز السِّمات في نظام الأسبقيَّة، وكيف أسهَمتِ المدرسة الدبلوماسيَّة الإسلاميَّة في رفد المدارس الأجنبيَّة بجواهر نظام الأسبقيَّة، وإقامة الفعاليَّات، ونظام الأسبقيَّة للوظائف والمناصب والمهام الحكوميَّة كانت هي السبَّاقة في ذلك.
وكان الإسلام أول مَن قدَّر العلماء في كُلِّ الاختصاصات وأعطاهم منازلهم الَّتي يستحقونها وفضَّلهم في الدنيا والآخرة، وقوله: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» )11 المجادلة)، أما في الحياة الاجتماعيَّة فلقد أعطى الإسلام الأسبقيَّة للوالدين وهم كبار السِّن، وكذلك للمرأة واليتيم والأقرباء، كُلّ له منزلته واعتباره، دون المساس بالآخرين أو الانتقاص من مكانتهم الاجتماعيَّة، وهذا قمَّة في الأسبقيَّة والتقدير والعدالة تبدأ من الوالدين، قال تعالى: «قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبيْنَ وَالْيَتَامَى» (215 البقرة) وقال تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا» (36 النساء) وهذا ما تميَّز به الإسلام من احترام وتقدير وأولويَّة للجميع ابتداءً من الوالدين، المرأة، رفيق السَّفر، والجار وغيرهم.
أمَّا المرأة فقد حازت على الأسبقيَّة والاحترام منذ نشأة الإسلام، قال تعالى: «وعاشروهن بالمعروف» (19 النساء) والمعروف هو الأسبقيَّة والأولويَّة والاحترام، خصوصًا حينما نقول بحياتنا اليوميَّة إنَّ هذا الشخص صاحب معروف وفضل علينا، أي أنَّه قد بادر وسبق الجميع، وبالتَّالي معاملة المرأة لها الأسبقيَّة في المُجتمع استنادًا إلى الأحاديث النبويَّة الشريفة والآيات القرآنيَّة الكريمة. ومن أمثلة تكريم المرأة، أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ طرد قبيلة كاملة من أرضها بسبب التعدِّي على امرأة وعدم احترامها، وهي قصَّة طويلة لا مجال لسردها، والأسبقيَّة الإلهيَّة قد أعطت للمرأة، وعلينا الامتثال لهذه الأسبقيَّة، والعمل عليها حينما فازت المرأة بهذا السبق العظيم، فتصبح أولَ مَن أُخبر بالدعوة، وأولَ مَن آمَن، وأولَ مَن نصر الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قولًا وعملًا. وعليه، فلها الأولويَّة والاحترام وكُلُّ التقدير منذ النفحة الإلهيَّة لها، وهذا عين التحرر من الجاهليَّة وإهمال منزلة المرأة لِتكُونَ بدلًا عنها الفضيلة والحياء والالتزام، لذلك علينا تقديمها ومنحها الأولويَّة والأسبقيَّة في حياتنا ليس بالمشي أمامنا كالغرب فقط، وإنَّما في كُلِّ مجالات الحياة.
وأسبقيَّة ومكانة المرأة في الإسلام كبيرة وعظيمة، وليس ما نراه من المُجتمع الغربي أو ما تركز عليه المدارس الدبلوماسيَّة باعتبار الأسبقيَّة للمرأة في فن الإتيكيت، ونلاحظ هذه السلوكيَّات هي من نبع الإسلام قَبل 1400 عام. فعن رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنَّه قال: (إنَّ اللهَ يُوصِيكُم بالنساءِ خيرًا...). وقال كذلك: (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم). وكذلك قال (فَاتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ، فإنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ).
كُلُّ هذه الأحاديث وأكثر أعطت الأسبقيَّة والاحترام والتقدير للمرأة في المُجتمع والحياة اليوميَّة والعمليَّة، وليس الجلوس بالبيت كما يتصور الغرب.
وكان الرسول الكريم يحث المُجتمع الإسلامي ويضع اللمسات الربانيَّة في الأسبقيَّة وكيفيَّة التعامل مع شرائح المُجتمع، سواء في الحياة اليوميَّة العائليَّة أم في الأنشطة الرسميَّة والدعوات. عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ليس منَّا مَن لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا...»، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَقَى قَالَ: «ابْدَءُوا بِالْكَبِيرِ، أَوْ بِالأَكَابِرِ».. وهذا من الأدب أن يبدأ بالكبير، وليس في الشرب فقط، بل في المشي وفي الكلام.. وهناك الكبير في السِّن، وهناك الكبير في المرتبة، وهناك الكبير في الولاية، وهناك الكبير في العِلم ولو كانت سنُّه صغيرة، فلهم المكانة والأسبقيَّة في التفضيل والإكرام.
وكان رسولنا الكريم يُعامِل الجميع وخصوصًا أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ معاملةً حسنةً؛ فكان يَخُصُّ كُلًّا منهم بِمَحبَّةٍ خاصَّةٍ وأفضليَّة في قلبه، وكان يُلقِّبهم بأحسن الأَلقاب لِيُعزِّز صفات الأُلفة والمَحبَّة فيما بَيْنَهم؛ فمثلًا كان يَصِف أبا بكرٍ وعمرَ بأنَّهما وزيراه، ولقَّب أبا عُبيدة عامر بن الجرَّاح بأمين الأُمَّة، وَحُذيفة بن اليمان كاتم سرِّه، وخصَّ الإمام عليّ بالعِلم والحكمة حين قال «أنا مدينة العِلم وعليّ بابها، فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب». في الختام، على جميع الجهات الرسميَّة الاهتمام بتطوير وصقل مهارات موظَّفي الاختصاص بإشراكهم بحلقات ودَوْرات متخصِّصة ومتقدِّمة في تنظيم وإعداد وحضور الفعاليَّات الحكوميَّة والاجتماعيَّة، مستندين إلى مفاهيم البروتوكول والإتيكيت الحكومي والاجتماعي.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت