الأربعاء 17 ديسمبر 2025 م - 26 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

أضواء كاشفة : حادث سيدني وفزاعة «معاداة السامية»

أضواء كاشفة : حادث سيدني وفزاعة «معاداة السامية»
الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 09:08 ص

ناصر بن سالم اليحمدي

160


لا تفتأ دولة الاحتلال الصهيوني عن اتهام كُلِّ مَن ينتقدها في أيِّ أمر من الأمور بتهمة أصبحت كالنكتة القديمة عند تكررها لا تؤثِّر في أحد وهي «العداء للساميَّة» وآخرها الهجوم المسلَّح من قِبل شخصين على روَّاد يهود بشاطئ بونداي الساحر في سيدني بأستراليا خلال احتفالهم بعيد الأنوار اليهودي «حانوكا» والَّذي أسفر عن مقتل (12) وإصابة أكثر من (20) شخصًا.. حيثُ سارع المسؤولون اليهود باتهام مَن قام بهذه الهجمات بمعاداة الساميَّة، لا سِيَّما أنَّه لم يكُنِ الأول من نوعه، بل حلقة في سلسلة من هجمات أخرى على كنس يهوديَّة وبنايات وسيَّارات منذ بدء الحرب «الإسرائيليَّة» على قِطاع غزَّة في أكتوبر 2023.

لقد أصبح مصطلح «معاداة الساميَّة» فزَّاعة جاهزة تلوح به «إسرائيل» في وجْه كُلِّ مَن يحاول أن ينتقد سياساتها.. فهي تخوف به كُلَّ مَن يقترب منها كاتهام شامل تسكت به الألسنة وتساوي بَيْنَ الكراهية العِرقيَّة وبَيْنَ نقد سياسات الدولة الظالمة.. وهي لا تدرك أنَّها في هذا الخلط المتعمد يضيع حق اليهود في الأمان والكرامة وحق الآخرين في النقد والمساءلة.

لا يجوز في أيِّ حال من الأحوال أن يستخدم مصطلح «معاداة الساميَّة» كعملة سياسيَّة تُصرف عند الحاجة؛ لأنَّ كثرة الاستعمال تفرغ المصطلح من معناه، وتجعله ضجيجًا بلا طحن.. فحادث سيدني مهما كانت تفاصيله ينبغي أن يقرأ بميزان العدالة لا بميزان الدعاية؛ لأنَّ العدالة تفرِّق بَيْنَ الاعتداء والكراهية، وبَيْنَ حماية الناس وتحصين السياسات من النقد.. أمَّا تحويل كُلِّ حادث إلى مرآة تعكس رواية واحدة فهو ظلم للضحايا قَبل أن يكُونَ ظلمًا للحقيقة.. فلا يُمكِن قراءة هذا الحادث بمعزل عن السياق الأوسع الَّذي صنعته سياسات الحركة الصهيونيَّة وسياسات «إسرائيل» تحديدًا القائمة على الظلم الممنهج بحقِّ الفلسطينيين.. فحين يُزرَع القهر والظلم لسنوات وتُدار السياسة بلُغة القوَّة والإقصاء تتكاثر مشاعر الغضب والكراهية والاحتقان في العالم.

بالطبع هذا لا يبرِّر العنف ولا يضفي عليه شرعيَّة أخلاقيَّة، فنحن نرفضه جملةً وتفصيلًا، وهذا مع عَبَّرَت عنه سلطنة عُمان من خلال البيان الَّذي أصدرته وأعربت فيه عن إدانتها واستنكارها بشدَّة لهذا الهجوم، مؤكدةً موقفها الثابت في إدانة العنف والإرهاب بكافة أشكاله ودوافعه، وجدَّدت دعوتها إلى أهميَّة تعزيز قِيَم التعايش والتسامح بَيْنَ مختلف الأديان والثقافات، وتعزيز التفاهم والتعاون الدولي لمكافحة آفة التطرف.. لكن بالتأكيد الظلم لا يبقى بلا أثر، والسياسات الَّتي تقوم على ممارسات لا تعترف بالعدالة ولا ترى في الآخر إلَّا عدوًّا دائمًا تخلق مناخًا عالميًّا مسمومًا يدفع الأبرياء في أماكن بعيدة ثَمَنه.

الخوف كُلُّ الخوف أن تهلل أبواق اليمين المتشدد ووسائل الإعلام الصهيونيَّة باتهام المسلِمِين بأنَّهم وراء هذا العمل، فهي عادة ما تلصق أيَّ هجمات إرهابيَّة بالإسلام وأهله رغم أنَّ الدِّين الحنيف يحترم كُلَّ الأديان، ومن مبادئه أنَّ العلاقة بَيْنَ الشعوب تقوم على التعارف والمودَّة والإخاء رغم اختلاف أجناسهم وأعراقهم ودياناتهم.. ويكفي أنَّ مَن قاوم المسلَّحِين المنفِّذِين في سيدني رجُل مُسلِم يُدعى أحمد الأحمد والَّذي ظهر من خلال فيديو انتشر على مواقع التواصل يظهر مقاومته لأحد المسلَّحِين ونزع السلاح منه، وبالتَّالي تقليل عدد ضحايا الحادث، وكان جزاؤه أنَّه أصيب هو الآخر برصاصات من المسلَّح الآخر نقل على أثرها للمستشفى لتلقِّي العلاج.

لا شك أنَّ ما حدَث في سيدني لا يرضي أحدًا ولا يختلف اثنان على أنَّه عمل مرفوض، لكن مصطلح «الإرهاب» مطاطي ويحتمل الكثير من المعاني.. و»إسرائيل» تَعدُّ مَن يقف ضدَّ مصالحها «عدوًّا» يستحق لقَب «إرهابي» حتَّى أنَّها لا تفرِّق بَيْنَ المقاومة المشروعة الَّتي هي حق الشعوب الخاضعة للاحتلال والإرهاب.. بل إنَّ أيَّ عمل عسكري ضد «إسرائيل» يُعدُّ عملًا إرهابيًّا حتَّى لو كانت الأخيرة هي البادئة في الاعتداءات.. وهذا الوتر عزفت عليه بكُلِّ براعة فأقنعت الغرب والعالم أجمع أنَّ المُشكلة تكمن في أتباع الإسلام، وأنَّهم العدوُّ الأساسي، وأنَّهم خطر داهم على الأمن والثقافة الدوليين ساعدها في ذلك جهل العالم بتعاليم الإسلام والمسلِمِين وعادات العرب عمومًا.

نحن لا نشجِّع مِثل هذه العمليَّات المسلَّحة، بل نرفضها بشدَّة، لكن مَن زرع حصد ولو بعد حين، وما زرعته الصهيونيَّة تجني منه الآن بعض ثماره، والسياسة الخاطئة الَّتي تتبعها تُلقي بظلالها القاتمة وأعبائها على دول العالم وشعوبه، الأمر الَّذي يتطلب منها أن تعدل عن سياستها المنحرفة، وتثوب لرشدها وتكُونَ جادَّة في تحقيق العدل.

إنَّ العنف مهما كانت مسمَّياته، والتعصب بكافَّة أشكاله مرفوض في كُلِّ الأديان وكُلِّ العصور ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان، فالله سبحانه وتعالى فرَّقنا شعوبًا وقبائل ليس لِنتقاتلَ أو يحاربَ بعضنا بعضًا، بل لِنتعارفَ ويفهم كُلٌّ منَّا الآخر، فنتعاون ونتكامل بما يُحقِّق عمارة الأرض وبناءها والعيش في سلام وأمان وتعايش قائم على الاحترام والمودَّة.

نتمنى أن يشهد العام الجديد إغلاق ملف الإرهاب الأسود، ويتم التخلص من التشدد والعنف، وأن تعيش دولنا العربيَّة وكُلُّ دول العالم في أمن وأمان وسلام، وتدرك الشعوب الأجنبيَّة أنَّ الإسلام لا ولم يدعُ للقتل أو الذبح والحرق، بل هو دِين تسامح ومحبَّة وتعايش سلمي.

على «إسرائيل» أن تدرك أنَّ الإصرار على تجاهل جذور المأساة والاكتفاء برفع فزاعة الاتهام الجاهز لا يعالج المشكلة، بل يعمقها.. فالسلام لا يولد من إسكات النقد، بل من مواجهة الظلم بوصفه ظلمًا أيًّا كان مرتكبه، وأينما كان ضحيَّته.

ناصر بن سالم اليحمدي

كاتب عماني