.. وما زلنا نقرأ في سِيرة المخرج الفنَّان الدَّاعية للإسلام مصطفى العقاد، هذا المخرج والفنَّان الدَّاعية للإسلام والَّذي أسلم على يده أكثر من عشرين ألف شخص. ولعلَّ هذا الإنجاز لم يحققه أكبر الدعاة، حيثُ دخل عالم الشهرة بكفاءته المهنيَّة في صناعة السينما، فنكمل ما بدأناه في مقالاتنا في الأسابيع الأربعة الماضية، والمنشورة في هذه الجريدة الغرَّاء (الوطن) العُمانيَّة الغراء،25 أكتوبر، والأول والتاسع من نوفمبر والأول من ديسمبر 2025م، حيثُ كانت سلسلة المقالات بعنوان: قراءة في سِيرة مصطفى العقاد: المخرج الفنَّان والدَّاعية للإسلام (الأجزاء الأول والثاني، والثالث، والرابع). ذلك الفنَّان السوري الحلبي المولود عام 1930، والَّذي نشأ في بيئة دينيَّة محافظة، وتربَّى على يد والده الواعظ (شيخ الدِّين)، وكان والدة يَعدُّ صناعة السينما وغيرها من الفنون لا تتفق وتعاليم الدِّين الإسلامي، في حين أنَّ ابنه مصطفى العقاد كان يرى أنَّ السينما وسيلة لتعريف النَّاس بالدِّين الإسلامي، وأنَّ هذه الوسيلة هي أفضل من الطُّرق التقليديَّة الَّتي يتَّبعها الدعاة والواعظون في تعريف النَّاس بالدِّين الإسلامي، وهو أسلوب المحاضرة وتقديم الدروس والمواعظ، والدخول في مناظرات. وقد اهتمَّ مصطفى العقاد منذ طفولته بتطوير قدراته وخبراته في الإنتاج والإخراج الفنِّي، فقد كان يتدرب على التصوير الفوتوغرافي في صغره، واشترى كتابًا باللُّغة الإنجليزيَّة حَوْلَ صناعة السينما فترجمه بنفسه لِينميَ معرفته في هذا المجال. وأعدَّ نفْسه للسفر إلى أميركا للدراسة، حيثُ التحق بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA) لدراسة الإخراج عام 1954، وعندما كان طالبًا أخرج خلال فترة الدراسة فيلمًا تاريخيًّا حَوْلَ: (قصر الحمراء)، وفاز بالجائزة الأولى في مسابقة الجامعة، فانتشر هذا الفيلم وانتشر انتشارًا واسعًا في أميركا. ولعلَّ هذا الفيلم باكورة وفاء العقاد بوعده لأبيه بأن يوظف صناعة السينما للتعريف بالدِّين الإسلامي.
نعم.. كان حلمه أن يوثِّق التَّاريخ وخصوصًا تاريخ المسلمين سينمائيًّا بدلًا من توثيقه في كتاب يقرأ، لذا اجتهد ليصلَ إلى العالميَّة بوصوله لعالم هوليود، ليتقبلَ الجمهور إنتاجه الفنِّي ويكسب ثقة النقاد والمختصِّين في عالم الفنِّ، ويعترف الجميع بكفاءته وإبداعاته الفنيَّة، كُلُّ هذا وهو متمسك بهُوِيَّته العربيَّة الإسلاميَّة، ثم بدأ نتاجه الفنِّي في مجال التوثيق التَّاريخي، فأنتج الفيلم العالمي (الرسالة) عام 1976م والَّذي شاهدة آلاف من النَّاس من مختلف دول العالم، وأسلم آلاف من المشاهدين من جنسيَّات مختلفة، وصحَّح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام لدى الآلاف من النَّاس.
واصلَ جهوده ومَسيرته في توظيف خبرته في الإنتاج السينمائي لتوثيق تاريخ المسلمين، فبدأ إنتاج فيلم حربي ملحمي تاريخي آخر عام 1981م، ليعرفَ العالم بأسْرِه ببطولات العرب في الدِّفاع عن أرضهم، وأبرزها بطولاتهم في مقاومة الاستعمار، فبعد أن انتهى من تصوير فيلم الرسالة في ليبيا، أنتج فيلمًا يبرز بطولات الشَّعب الليبي بلد المليون شهيد، بقيادة القائد البطل عمر المختار، في مقاومة الاحتلال الإيطالي، وقد أسمى النسخة الأجنبيَّة من الفيلم باِسْمِ (أسد الصحراء) وأطلق اسم عمر المختار على النسخة العربيَّة من الفيلم. بدأ تصوير الفيلم في الـ(4) من مارس عام 1979م في منطقة صحراويَّة تبعد نَحْوَ (64كم) عن مدينة بنغازي في ليبيا، وأيضًا في منطقة الواحات بالقرب من مدينة أوجله وفي منطقة الجبل الأخضر شرق ليبيا، وقد حرص على تصوير المشاهد في مواقع الأحداث الحقيقيَّة، وقد شارك في الفيلم ما يقارب (250) ممثلًا، من عدَّة دول مختلفة مثل: أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا ومصر ولبنان وتونس وسريلانكا وليبيا، وقد استعان بخمسة آلاف ممثل كـ(كومبارس) ممثل مساعد، وقد كتب سيناريو الفيلم الكاتب البريطاني هاري جراي، وتمَّ تمويل الفيلم من قِبَل ليبيا وأميركا.
وانتهى من تصوير الفيلم في الثاني من أكتوبر من نفس العام. وقد كان أول عرض للفيلم يوم الـ(4) من أبريل عام 1981م في دولة الكويت، وفي الولايات المتحدة الأميركيَّة، ودول أخرى من العالم. أمَّا إيطاليا فقد رفضت ترجمة الفيلم إلى اللغة الإيطاليَّة وعرضه في إيطاليا، ولم توافقْ على عرضه إلَّا عام 2009، بعد حظر دام أكثر من رُبع قرن. وقد ترك هذا الفيلم أثرًا كبيرًا في نفوس المشاهدين من جميع أنحاء العالم وفي عدد من الأجيال، حيثُ أوضح الحقيقة وأعطى فهمًا صحيحًا لشخصيَّة عمر المختار حتَّى أصبح شخصيَّة معروفة ومؤثرة يقتدي بها الأجيال.
واصلَ إنتاجه الفنِّي حيثُ بدأ التحضير لفيلم حَوْلَ شخصيَّة صلاح الدين الأيوبي؛ لِيبزرَ الواقع الصَّحيح في الصِّراع الَّذي دار بَيْنَ المسلمين والصَّليبيين، وقد اختار الممثل العالمي القدير (شون كورني)، رغم كِبَر سنِّه، كان يرى أنَّ الصراع بالمسلمين والصليبيين قد تكرر في زماننا، ويريد أن يظهر الحقيقة ويصحح المفاهيم حَوْلَ الإسلام من خلال هذا الفيلم، وفيلم آخر عن فتح الأندلس، وهذان الفيلمان يوازيان الفيلميْنِ السَّابقيْنِ في الجودة والكفاءة. وخلال فترة تحضيره لهذيْنِ الفيلميْنِ تعرض لحادث إرهابي أدَّى إلى قتله، حيثُ استشهد في إثر انفجار إرهابي وقع في فندق حياة عمان. حصل الانفجار النَّاتج عن عمليَّة انتحاريَّة لحظة وجود العقاد في بهو الفندق لاستقبال ابنته القادمة للتَّو من السَّفر. توفِّيت ابنته ريما في الحال، بَيْنَما مات هو بعد العمليَّة بيومين متأثرًا بجراحه، ودُفن في مسقط رأسه مدينة حلب.
وهكذا انتهت مَسيرة رجل كان همُّه نشر الفكر الصَّحيح حَوْلَ الإسلام، وقد أعطانا درسًا بليغًا أنَّ خدمة الإسلام، ودعوة النَّاس للدِّين الحنيف، والدِّفاع عن الدِّين، لا تكُونُ بقصائد تتلى في زوايا المسجد، وبمحاضرات يقدِّمها رجُل دِين، ولا بمناظرات تقام في المنتديات، بل من خلال أساليب متنوعة، فكُلُّ مسلم يستطيع خدمة دِينه من خلال عمله إذا عمل بكفاءة واحترافيَّة عالية، سواء كان طبيبًا أو معلِّمًا أو رجُل اقتصاد أو فنَّانًا، أو رسَّامًا، أو لاعبًا رياضيًّا محترفًا، فالمسلم يستثمر كُلُّ فرصة لخدمة دِينه، فخدمة الدِّين ضالة المؤمن فهو أولى بها أينما وجدها. ويبقى السؤال: ألم يستطع أحد السينمائيين أن يكملَ المَسيرة الَّتي بدأها هذا الفنَّان، فينتج الفيلميْنَ الَّذين بدأهما؟ أم أنَّه رجُل لا يتكرر؟! وهل هناك أمل أن يتصدر فنَّان ومنتِج سينمائي لِينتجَ هذيْنِ الفيلميْن؟! أم أنَّ حلم العقاد تبدَّد وسط شظايا الانفجار؟!
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
Najwa.janahi@