جسَّدت كلمة سلطنة عُمان في اجتماع قادة العالم حَوْلَ تغيُّر المناخ، الَّذي أُقيم بمدينة بيليم البرازيليَّة حضورًا فكريًّا ناضجًا في قراءة التحوُّل البيئي كقضيَّة وجوديَّة واقتصاديَّة في آنٍ واحد. فقَدْ عَبْرَت عن رؤية متقدِّمة تَعدُّ التحوُّل المناخي فرصةً للنُّمو وبناء اقتصاد جديد، يقوم على الابتكار في الطاقة النظيفة والذكاء المناخي والبنية المستدامة، حيثُ يعكس التوجُّه إدراكًا وطنيًّا بأنَّ البيئة لم تَعُدْ هامشًا في التخطيط التنموي، وإنَّما محور لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، وأنَّ التحوُّل المناخي يُمكِن أنْ يكُونَ محركًا للاستثمار ووسيلة لخلق فرص جديدة للأجيال القادمة. وقد جاءت الكلمة لتؤكِّدَ أنَّ سلطنة عُمان تنظر إلى المستقبل بِعَيْنِ المشارِك الفاعل لا المتلقِّي؛ إذ تبني سياستها البيئيَّة على الوعي بالتكامل بَيْنَ الإنسان والطبيعة، وعلى قناعة بأنَّ التنمية لا تكتمل إلَّا عندما تصبح البيئة جزءًا من منظومة الإنتاج، في رسالة تؤكِّد أنَّ الوعي البيئي هو جوهر التنافس القادم بَيْنَ الأُمم.
وانطلاقًا من هذا الفهم الَّذي تضمنته الكلمة، جاءت الإشارة إلى رؤية «عُمان 2040» باعتبارها الإطار الَّذي يربط بَيْنَ السياسات البيئيَّة والتنمويَّة في مسار واحد، حيثُ أكَّدتْ أنَّ تلك الرؤية جعلت متطلبات الاتفاقيَّات البيئيَّة الثلاث محورًا من محاورها الوطنيَّة، وهي تمضي في تطبيق الاستراتيجيَّة الوطنيَّة للحياد الكربوني، وتفعيل السِّجل الوطني للكربون، وتطوير سياسات المادَّة السادسة من اتفاق باريس، بما يعكس انتقالًا من مرحلة الالتزامات النظريَّة إلى التنفيذ الفعلي، وهو ما يعكس عُمق التفكير التنموي الَّذي يتعامل مع الاستدامة كخطَّة اقتصاديَّة شاملة، تربط بَيْنَ حماية البيئة واستدامة النُّمو في بنية واحدة. فالمناخ في الرؤية العُمانيَّة مُكوِّن أساس من مُكوِّنات النهضة الحديثة، يُعاد من خلاله تعريف مفهوم الرَّفاه الوطني على أساس الانسجام بَيْنَ التقدُّم الصناعي والتوازن الطبيعي؛ لِيصبحَ المستقبل الأخضر الامتداد الطبيعي لنهضة بدأتْ بوعي واستمرَّت بعِلم وإرادة.
ولعلَّ أبرز ما يُميِّز الموقف العُماني هو دعوته إلى مراجعة النظام المؤسَّسي البيئي العالمي الَّذي يعمل بمنطق الماضي في إدارة ملفات الحاضر والمستقبل، حيثُ قدَّمت الرؤية طرحًا فكريًّا متقدِّمًا، يؤكِّد أنَّ النظام البيئي للكوكب نظام واحد لا يتجزأ، وأنَّ بطء الإجراءات وتشتُّت الجهود يعودان إلى غياب الحوكمة الفاعلة القادرة على توحيد الرؤية والمسؤوليَّة، وهو ما يُعَبِّر عن حضور قيادي لعُمان في صياغة خِطاب بيئي عالمي أكثر عدالة يقوم على الموازنة بَيْنَ الحقِّ في التنمية، وواجب الحفاظ على الكوكب، وتبرز من خلاله الدعوة إلى بناء منظومة مؤسَّسيَّة مَرِنة تتجاوز البيروقراطيَّة التقليديَّة، وتُعلي من قِيمة التعاون الدولي والمساءلة البيئيَّة، في طرح يؤكِّد أنَّ الحوكمة المستدامة مسار لإنقاذ العالم من أزماته المتراكمة، وإعادة الثقة في قدرة الإنسان على إدارة بيئته بوعي ومسؤوليَّة.
إنَّ التنمية في الرؤية الوطنيَّة تَسير على مبدأ التكامل مع الاستدامة، لا التعارض معها، في مسار يوازن بَيْنَ الرَّفاه الاقتصادي وصون البيئة.. هذا الفَهْمُ جعل السَّلطنة ترى في الانتقال العادل والمنصِف نَحْوَ الاقتصاد الأخضر طريقًا لبناء مستقبل آمِن واقتصاد مزدهر. فالاستثمار في البيئة أصبح توجُّهًا استراتيجيًّا يَضْمن استقرار الأجيال القادمة، ويحافظ على موارد الوطن من الاستنزاف، وتبرز المشروعات الوطنيَّة الَّتي تنفِّذها البلاد في مجالات التكيُّف مع التغيُّرات المناخيَّة والإنذار المبكر وحماية المُدُن من الفيضانات والتوسُّع في الحلول القائمة على الطبيعة كترجمة عمليَّة لرؤية تجمع بَيْنَ الإنسان والطبيعة في علاقة شراكة لا صراع. إنَّ هذا الوعي يُشكِّل القاعدة الأخلاقيَّة الَّتي تَبْني عليها السَّلطنة حضورها البيئي، حيثُ تصبح حماية الكوكب استثمارًا في الحياة نفسها، ومسؤوليَّة حضاريَّة تؤكِّد أنَّ النهضة لا تكتمل إلَّا بحماية ما تنبض به الأرض من حياة.