مع كُلِّ استعمار قادَتْه قواهُ ـ قديمُها وجديدُها ـ يتصدَّر مَشْهدَه ركنانِ أساسانِ، هما الموارد الطبيعيَّة الَّتي تظلُّ الدَّافع الأوَّل والهدف الأكبر للاستعمار، وتحريك الجحافل للاستيلاء عليها ونهبها. والرُّكن الآخر تُمثِّله الأدوات الوظيفيَّة الدَّاعمة والمُسانِدة لهذه الجحافل على الأرض، والَّتي لا يكاد أيُّ إقليم من الأقاليم ـ هدف للاستعمار ـ يخلو مناخه من الحاضنة المقيتة للفعل الاستعماري، سواء كانت هذه الأدوات في صورة معارضة (وتحديدًا معارضة غير وطنيَّة وغير نزيهة تقتات على الفتات من وراء بيع الذِّمم) أو في صورة جماعات مُسلَّحة تتأبط الإرهاب، بحيثُ لا تتحرك هذه الأدوات بصورتَيْها الآنفتَيْنِ إلَّا وَفْقَ ما يطلبُه منها مُشغِّلها المُستعمِر.
ولا يَغِيبُ عن الانتباه ما يسبقُ الظَّاهرة الاستعماريَّة هذه من عمليَّة التضليل الإعلامي والسِّياسي للوقائع والأدوار إلى الدَّرجة الَّتي يتمُّ الادِّعاء فيها أنَّ المُجرِم هو ذاته الَّذي يدَّعي إدانة الجريمة. والأكثر لَفْتًا للانتباه هو أنَّ مَن يوصفون بالنُّخَب الفكريَّة هُمْ في العادة مَن يتصدَّرون المشهد الوظيفي لهذه الأدوات.
وعِندَ إسقاط هذا التَّوصيف على الوضع الدَّائر نَحْوَ كُلٍّ مِن فنزويلا ونيجيريا والَّذي تُحرِّكه الدَّوافع الاستعماريَّة، نجدُ أنَّ الموارد الطبيعيَّة الهائلة والأدوات الوظيفيَّة في كلا البلدين هما من يرفع شهيَّة المُستعمِر الأميركي الَّذي أخذَ يُعوِّل على الحاضنة في قدرتها على أنْ تكُونَ الجسر القادر على أنْ تمرَّ عَبْرَه جنازير دبَّاباته وجحافل جيوشه، وكذلك في قدرتها على توفير الأجواء المواتية في سرعة إسقاط الحكومة أو إخضاعها لإرادة المستعمِر وتحقيق أهدافه. كما هو الحال الَّذي تُمثِّله ما تُسمَّى «المعارَضة الفنزويليَّة» ـ عَبْرَ زعيمتها ماريا كورينا ماتشادو باريسكا الَّتي مُنحت جائزة نوبل للسَّلام هذا العام (2025) تشجيعًا لها على تحقيق المطلب الاستعماري ـ والجماعات المُسلَّحة في نيجيريا المُتمثِّلة في «بوكو حرام» وبقيَّة التنظيمات الَّتي تؤدِّي دَوْرها الوظيفي وَفْقَا لرغبة مُنتِجها ومُشغِّلها المُستعمِر الأميركي. أمَّا التضليل الإعلامي والسِّياسي الَّذي تُمارسه الآلة الإعلاميَّة الأميركيَّة والقادة والسِّياسيُّون والعسكريُّون الأميركيُّون فلا يخفى على ذي لُبٍّ ـ رغم إثارته للسُّخرية ـ والمُتمثِّل في اتِّهام واشنطن للرَّئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بتهريب المُخدِّرات الَّذي نفَى الاتِّهام مؤكِّدًا أنَّ واشنطن تختلق ذرائع لتغيير النِّظام في كراكاس؛ بهدف الاستيلاء على النِّفط الفنزويلي. وأدَّى أكثر من (15) غارةً جويَّة أميركيَّة على سُفن في منطقة البحر الكاريبي إلى مقتل (65) شخصًا على الأقل في الأسابيع الأخيرة. ولا تختلف الصُّورة المُثيرة للسُّخرية للذَّرائع الواهية الَّتي تتمسَّح بها الولايات المُتَّحدة للتدخُّل في نيجيريا، حيثُ كرَّر ترامب تهديده بتنفيذ عمل عسكري في نيجيريا بدعوى الدِّفاع عن المسيحيِّين هناك، رغم أنَّ الرئاسة النيجيريَّة أعربتْ عن رغبتها في عَقْدِ لقاءٍ معه لحلِّ القضيَّة. وعِندَما سُئل إنْ كان يفكِّر في نَشْرِ قوَّات بريَّة أو تنفيذ ضربات جويَّة في نيجيريا، قال الرَّئيس الأميركي «قد يكُونُ ذلك، أقصد رُبَّما أشياء أخرى أيضًا، أتصوَّر الكثير من الأمور، إنَّهم يقتلون أعدادًا قياسيَّة من المسيحيِّين في نيجيريا، إنَّهم يقتلون المسيحيِّين بأعدادٍ كبيرة جدًّا، لن نسمحَ بحدوث ذلك». والسُّؤال الَّذي يطرح ذاته: لماذا مسيحيو نيجيريا في الوقت الَّذي يُقتَل فيه مسيحيُّون ويُهجَّرون في دول أخرى أمام مرأى ومسمع الولايات المُتَّحدة؟ أوَلَيْسَتْ هذه ذريعة كاذبة لتبريرِ عمليَّة السَّطو والنَّهب؟
خلاصة القول: هذا هو حال الكثير من الدول في هذا العالم مع شريعة الغاب الَّتي تحكمه والنَّزعة الاستعماريَّة الَّتي تزداد شراهةً؛ إمَّا أنْ تدفعَ ضريبة حدودها، وإمَّا أنْ تدفعَ باهظًا ثَمَنَ غِناها بالموارد الطبيعيَّة، على النَّحْوِ الَّذي شاهدَه الجميع في العراق وليبيا وسوريا والسُّودان وغيرها من دول العالم.
خميس بن حبيب التوبي