الثلاثاء 04 نوفمبر 2025 م - 13 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

فـي بلاد «مانديلا».. إما أن تكون حرا أو لا تكون «1ـ7»

فـي بلاد «مانديلا».. إما أن تكون حرا أو لا تكون «1ـ7»
السبت - 01 نوفمبر 2025 11:28 ص

سعود بن علي الحارثي

30


أولًا: الحاضنة الأولى للبشريَّة.

كيف ولدتْ بذور هذه الرغبة الصلبة والتشبث المُلِحّ بزيارة جنوب إفريقيا قَبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف؟ ونمَتْ وتعمَّقتْ إلى أن أصبحت تحدِّيًا أغلق أمامي خيارات التسويف والمماطلة، ومحاولة التأجيل والمراجعة والنظر المستقبلي، بحجج ومبررات تتعلق بظروف المال والأُسرة والصحَّة ومشقَّة الطيران المباشر لما يزيد عن التسع ساعات والمخاوف الأمنيَّة المتداولة... الَّتي لم تكُنْ كما يبدو، أكثر من ذريعة أحاول إقناع نفسي بها، للمزيد من التأخير في تنفيذ سفري إلى هذا البلد الإفريقي الجميل؟ هل يعود سبب هذا الإلحاح والرغبة والتشبث المبكر جدًّا، إلى تلكم التضحيات الإنسانيَّة الجليلة، وروح الكفاح والجهاد والمقاومة الَّتي تحوَّلت إلى نموذج عالمي للإرادة والعزيمة والمشيئة الَّتي لا تلين؟ المصحوبة بزخم من المشاهد والصوَر المثيرة للفخر والاعتزاز، والمُثل النبيلة السامية المحتشدة بقِيَم الحُريَّة وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمواطنة الصالحة... الَّتي كان لها أثَرها العميق على نفسي وتفكيري وأنا أتابع وأستلهم العديد من الأعمال الدراميَّة والكتابات الروائيَّة والأدبيَّة الَّتي تناولتها، وأقرأ أخبارها وحيثيَّاتها وتحليلاتها وما كُتب عنها... والَّتي قادها السياسي الزعيم، المناهض لنظام الفصل العنصري في بلاده «نيلسون روليهلاهلا مانديلا»، ونجاح جنوب إفريقيا في نَيل الحُريَّة لشَعبها وامتلاك حقوقه المشروعة... ففي أرضها ومن سهولها وقراها نمَتْ بذور التحرر ودروس الإرادة القويَّة والتضحيات في العصر الحديث؟ فهل يُمكِن أن نطلق على هذه البلاد بصانعة النماذج من المناضلين من أجل الحقِّ الإنساني؟ يُمكِن أن أجيبَ على هذا السؤال بكُلِّ ثقة: نعم. فمَن يصدِّق بأنَّ أشهَر وأعظَم زعيم روحي ورائد سياسي ومناضل ومقاوِم للاستبداد، «المهاتما غاندي»، أمضى عشرين عامًا من حياته على أرضها، ومن جنوب إفريقيا تبنَّى النضال «ضد قوانين الفصل العنصري المطبقة على المهاجرين الهنود»، وقاد التمرُّد بالجلوس على المقاعد المحظورة على الجالية الهنديَّة في عربات القطار، متحدِّيًا كُلَّ أشكال التمييز، لِيلحقَ به نيلسون مانديلا، فيقود نضال السُّود في مواجهة الفصل العنصري البغيض. هل بسبب ما اختزن وتراكم في ذاكرتنا من صوَر الإشادة والمديح والإطراء، عن جَمال طبيعتها البكر وتنوُّع لوحاتها الجماليَّة المريحة للبصر والنفْس، وحُسن وفتنة معالمها السياحيَّة وتطوُّر وجودة بنيتها الأساسيَّة وتقدُّم عمرانها وطقسها المنعش، وتميُّزها بالكهوف الضخمة الَّتي أكدت الأبحاث وعمليَّات التنقيب وجود إنساني قديم للغاية فيها، فهي «موقع تراث عالمي بحسب اليونسكو»، والأرض الَّتي يحتمل أن تكُونَ «مهدًا للبشريَّة»؟ أم لأنَّها تُمثِّل إقليمًا مهمًّا من القارَّة الإفريقيَّة لا بُدَّ من زيارته والتعرف على طبيعته ومحتوى ثقافته وتاريخه وخصائص شَعبه وتسجيل ملاحظاتي ووجهة نظري وانطباعاتي عن مشاهداتي اليوميَّة، على غرار تطوافي في عددٍ من بُلدان ومُدُن الشرق الإفريقي؟ هل لأنَّها البلد الوحيد الَّذي بادر وحظِيَ بالسَّبق والتفوُّق، فشعر بمعاناة الشَّعب الفلسطيني وما تعرَّض له في الماضي والحاضر من ظلم وتنكيل ومذابح تعبِّر عن البربريَّة واستعمار وحشي ونهب لأراضيه، وتقييد واستعباد لحُريَّاته وانتهاك لحرماته ومقدَّساته... ممَّا يندَى له جبين الإنسانيَّة خجلًا وعارًا، فحَوَّلَ ذلك الشعور الإنساني النبيل إلى خطوات ملموسة وتطبيق عملي وفعل جريء، وتصميم مذهل تحدَّى كُلَّ التهديدات والضغوطات والممارسات الشَّاذَّة، الَّتي تسعى إلى ثَنيِ حكومة جنوب إفريقيا عن المُضي في مواصلة إجراءاتها القانونيَّة والقضائيَّة في الدعوى الَّتي تقدَّمت بها إلى محكمة العدل الدوليَّة، في الـ(29) من ديسمبر 2023م، «لإدانة «إسرائيل» بالسَّعي للإبادة الجماعيَّة بحقِّ الشَّعب الفلسطيني في قِطاع غزَّة...»، ومطالبة العالم بحمايته، والَّتي شجَّعت دولًا أخرى فيما بعد للانضمام إليها والتضامن معها ومساندتها في هذه الدعوى الَّتي لقيَتْ ترحابًا وتبجيلًا واحتفاء عربيًّا وعالميًّا.. فتحوَّلت جنوب إفريقيا إلى «محبوبة العرب»، ووصفتْ بأنَّها «عربيَّة أكثر من العرب»، وأكثر قربى لفلسطين من شقيقاتها»...؟ وما زالت حتَّى لحظة تنفيذ هذا التطواف تناضل وتكافح وتشعل فتيل المطالبة بتطبيق العدالة والحُريَّة للشَّعب الفلسطيني عالميًّا... لا شكَّ بأنَّ كُلَّ تلك الأسباب وغيرها مُجتمعة كانت أكثر من محفِّزة ودافعًا لزيارة بلد استثنائي، أعترف بأنَّها تأخرتْ كثيرًا، ولكن ما دام الطموح مشتعلًا والإرادة صلبة، وفي العمر بقيَّة والظروف مواتية ومساندة... فإنَّ الأهداف والأُمنيات والتطلُّعات تتحقق تباعًا، وهذا ما حدَث بعد اتخاذ قرار السفر إلى جنوب إفريقيا، خصوصًا بعد أن طمأنتني ابنتي العزيزة «خديجة»، وبثَّت في نفسي جرعات أخرى من التشجيع والترغيب بعد عودتها من تطواف شيِّق غني بالمنافع شمل كلًّا من «جوهانسبرج» و»كيب تاون»، و»جاردن روت»، الَّتي يطلق عليها أيضًا، طريق الحدائق، معلنةً بكُلِّ ثقة وإيمان بأنَّها «أجمل بلد زرته حتَّى الآن»، وهي الَّتي حلَّقت وطافت وزارت عشرات الدول ومئات المُدُن حَوْلَ العالم... توكَّلنا على الله، ومَن توكَّل عليه ما خاب، فحجزَ لنا الولد العزيز محمد، على الطيران الإثيوبي. فبعد مراجعات ومقارنات قدّر بأنَّه الأنسب لنا من نواحٍ عديدة، منها: أنَّ أديس أبابا كمحطَّة استراحة بعد طيران يقارب الأربع ساعات من سماء مسقط، سوف توفِّر لنا فرصة للاسترخاء والحركة وتغيير المكان تجدِّد نشاطنا ودماءنا، والجسم بحاجة دائمة إلى الحركة، بدلًا من الطيران المتواصل لِمَا يزيد عن تسع ساعات نعيشها في صندوق الطائر المحلِّق؛ انطلاقًا من أيِّ مطار خليجي، وسوف يُحقِّق لي هذا الخيار أمنيَّة أثيرة على نفسي وهي زيارة إثيوبيا، ولو لفترة قصيرة، فهذا البلد الَّذي استقبل أوَّل هجرة للمسلمين، واحتضن أولئك الفتية الأبرار من الرعيل الأوَّل الَّذين تربّوا على يد الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وأخذوا مبادئ الإسلام عنه، له مكانة خاصَّة في قلوب المسلمين، وأحلم بزيارته، وإثيوبيا هي «الجميلة العذراء الَّتي لم تكتشفها أعيُن الباحثين عن الجَمال النَّقي بعد»، المليئة بالبهاء والحُسن، موطن مملكة أكسوم القديمة، الَّتي تمتلك أطول سجل تاريخي للاستقلال في إفريقيا، وتُعدُّ كذلك، «موطن ظهور الإنسان الأول العاقل، خلال العصر الحجري القديم الأوسط»، وفقًا لنتائج عددٍ من الاكتشافات والقراءات. و»أديس أبابا»، الَّتي تعني بالعربيَّة «الزهراء الجديدة»، تُعَد عاصمة إفريقيا لأهميَّتها السياسيَّة والتاريخيَّة والدبلوماسيَّة، وارتبطت بصفحات النضال الجنوب الإفريقي، ففيها تدرَّب منتسبو «حزب المؤتمر الوطني الإفريقي» على استخدام السلاح في مرحلة الانتقال من النضال السلمي إلى المقاومة المُسلَّحة. وآخر هذه الأسباب أنَّ الطيران الإثيوبي قدَّم لنا أفضل الأسعار وأقلّها تكلفة، ما أغرانا على اختياره دونًا عن الشركات الأخرى... «يتبع».

سعود بن علي الحارثي

[email protected]