الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 م - 6 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

لماذا أركض؟

لماذا أركض؟
الاثنين - 27 أكتوبر 2025 11:21 ص

د. يوسف بن علي الملَّا

20


ما زال يتساءل بعض الناس عن أهميَّة الركض أو الجري على صحَّتنا ونفسيَّتنا كبَشَر، خصوصًا وأنَّه رُبَّما يذكّرني بأنَّنا على قيد الحياة، طبعًا ليس بالمعنى الحقيقي من نبض القلب، بل بالوعي الهادئ بالتنفس والحركة. وهكذا هي الخطوة الأولى في كُلِّ ركض وجري نمارسه، نشعر بأنَّها تتكرر دائمًا مع تمرُّد بسيط على السكون، وتأكيد نفسي على أنَّنا ما زلنا نختار المضي قُدمًا في حياتنا. ورُبَّما نتَّفق هنا ـ إن صحَّ لي القول ـ بأنَّ الركض ليس مجرَّد تمرين، بل هو حوار بَيْنَ الجسد والعقل؟

صحيح أنَّنا عندما نتحدث عن الصحَّة، نختصرها بمقاييس مثل ضغط الدم والسكر والكوليسترول. لكنَّ الحقيقة هي أنَّ الصحَّة تبدأ في لحظات كهذه، عندما يصرُّ الجسم على الاستمراريَّة، كيف لا؟ والأبحاث الطبيَّة أشارت إلى أنَّه حتَّى الجري الخفيف، من خمس إلى عشر دقائق يوميًّا يُمكِن أن يقلل من خطر الوفاة بأمراض القلب والأوعية الدمويَّة بنسبة تقارب الخمسة والأربعين بالمئة. بل ودراسة أخرى تؤكِّدها إحدى الكُليَّات المعنيَّة بأمراض القلب، تُثبت بأنَّ العدَّائين المنتظمين يعيشون عادة ثلاث سنوات أطول من غير العدَّائين بِغَضِّ النظر عن السرعة أو المسافة المقطوعة.

وأنْتَ تجري في أحد تلك الصباحات، ألا تشعر فيها براحة في الهواء، حتَّى أنَّ كُلَّ خطوة تحمل في طيَّاتها راحة! خصوصًا إذا ما علمنا بأنَّ النشاط في الهواء الطلق يحفِّز تدفُّقات كيميائيَّة عصبيَّة تُحسِّن الذاكرة والتركيز والمزاج أيضًا. أمَّا إذا ذكرت هنا تلك النشوة، والَّتي تعرف بنشوة العداء، والَّتي غالبًا لم يكُنْ يعترف بها، لكنَّها الآن أصبحت معروفةً مع تدفُّق لمواد الكانابينويد الداخليَّة، وهي جزيئات طبيعيَّة تهدِّئ القلق وتُعزِّز المرونة العاطفيَّة. والحقيقة هذه فلسفتي في موضوع الركض والجري، فتعبه ـ إن استطعت التعبير ـ يذيب الضجيج، ولا يترك سوى ما هو مهمٌّ... وهنا تكمن الراحة!

طبعًا المثير في الأمر، أنَّني وجدتُ دراسة نُشرت عام 2020 في مجلة جمعيَّة القلب الأميركيَّة، بَيَّنَتْ بأنَّ المشاركين في الماراثون والركض الرياضي، ولأول مرة قلصوا عمر الأوعية الدمويَّة لدَيْهم بنَحْوِ أربع سنوات بعد ستة أشهر من التدريب. وهذا يؤكد كيف أنَّ التمارين الرياضيَّة تشكِّل البنية الداخليَّة للجسم بشكلٍ أفضل. ومع ذلك يبقى التوازن أمرًا بالغ الأهميَّة، فتدريبات التحمُّل الشديدة قد تحمل مخاطرها الخاصَّة، كما هو الحال في معظم جوانب الحياة. نحتاج دائمًا إلى التناغم بَيْنَ التوتُّر والتعافي وأكيد الجهد والراحة.

بطبيعة الحال، دائمًا ما يخبر المريض بأنَّ الأدوية قادرة على علاج المرض، لكن ننسى أنَّ الحركة تُحسِّن الصحَّة، خصوصًا وأنَّ الجري يساعد على تنظيم الأنسولين، ويقلِّل الالتهابات، ويُعزِّز وظائف المناعة. بل هو أحد أبسط العلاجات للتوتر في العصر الحديث. وعليه فالركض أو الجري أصبح أكثر من مجرَّد تمرين. فهو تمرين يومي على الأمل، فلا يطلب سوى الصدق، وكم أنْتَ مستعد للعطاء اليوم؟ وبشكلٍ أكيد يردُّ الجميل بوضوح وانضباط وسكينة.

ختامًا، وكما نلاحظ في ماراثون مسقط السنوي، لا يركض الجميع للمنافسة، بل يركضون ليتذكروا بأنَّ الحركة لُغة الحياة. فالجسد ـ سبحان الله ـ ليس مصممًا للسكون، بل هو يتوق إلى التجديد والتكرار، والاستمرار في الحياة ما دامت قدَماه تحملانه!

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]