الأحد 02 نوفمبر 2025 م - 11 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

العدول البلاغي «العدول فـي التشبيه ودوره الدلالي» «3»

الأربعاء - 22 أكتوبر 2025 01:26 م
20

العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية


.. وحجةُ الدائن الفارغة، ورأيُه المعوَجُّ، وعقلُه المقلوبُ سَوَّلَ له أن البيع مثل الربا، فكما أن البيع فيه ربح للبائع، فكذلك الربا فيه ربح للدائن، فهما ـ في رأيه وعقله ـ سواء، وهو أمر يستحيل قبوله؛ لأن الله أَحَلَّ البيع، وحَرَّم على عباده الربا، فاستعمال القرآن الكريم للتشبيه مقلوبًا هنا؛ لبيان أن حياة المرابين، وتفكيرهم، وعقلهم، وكلَّ تعاملاتهم، ونظرتَهم مقلوبةٌ انقلابَ التشبيه الذي جاء معكوسُا مخالفًا لأساس، وأصل التشبيه من كونه معتدلا قائما، جاء فيه المشبه أقلَّ في الصفة من المشبه به، ولكنهم (أي: المرابين الذين يعيشون على دماء الفقراء، وينمُّون أموالهم من دموعهم) يجعلون المشبه (وهو الضعيف) أقوى في الصفة من المشبه به (والأصل أنه الأقوى من المشبه)؛ ليبين بذلك سوء صنيعهم، وانقلابَ وضعِهم، واهتراءَ عقلهم، وضعفَ عقيدتهم، وهشاشةَ فكرهم، وضيقَ عَطَنِهِمْ، وأن المال قد صار لهم إلههم، يحرِّكهم، ويأمرهم بالازدياد، ولو على حسابِ مَنْ لا يقدرون، ولو انقسمتْ ظهور المدينين، وكلما زاد فترةَ تأجيلِ الدين لهم زادت نسبة الربا بلا رحمة، ولا عفو، ولا إحسان، ولا شفقة، وإذا كشفت عن صدروهم فلا تجد فيها قلبا بل تجد قالبًا من حجر، أو من حديد، لا يرقُّ لدمع، ولا يحِنُّ لثواب، ولا يأبه بعقاب، ولا يفكر أصلًا في آخرة، وسؤال، وجواب، وإنما يفكر كيف يعكر صفو الناس من شيوخ وشباب.

إنّ مجيءَ التشبيه هنا مقلوبًا معكوسًا مخالِفًا لما عليه تشبيهاتُ العرب، وآتيًا على غير مقتضى الظاهر يبيِّن مدى فداحة التفكير، وتدنِّي التعامل، وسوءَ استعمال المال، وأن ذلك أمرٌ مدمِّرٌ للمجتمعات، مفكِّك لأواصر العلاقات، مهدِّد أركانَ الدول؛ لأن شريحة الفقراء ليست قليلة، وإنما قد تجد بلادًا ، وأسرا كاملة فقيرة، لا تجد قوتَ يومها، واضطرتْها الظروفُ إلى الاستدانة ، وأخذ القروض مِمَّنْ عَمِيَ قلبه، وقسا فؤاده، وضعفتْ عقيدته، واضطربتْ طبيعته، وارتكستْ فطرتُه، وانتكست حياته، ذلك المرابي الذي يعيش ليمتصَّ دماء الغلابة، والمعاويز، ويشرب هانئًا من دموع الفقراء، والمساكين، ويتعلل بأن البيع (الذي هو الحلال الذي أحله الله) مثلُ الربا (الذي حرمه الله، ومنعه، وحذَّر منه)، هذا التعللُ المقيتُ، والفكرُ البغيضُ هو الذي يجعلهم يستسيغون الحرامَ، ويجترئون على الله فيه، ويُمَنُّونَ أنفسَهم بأنه على الصواب، وجادة الطريق، وأنهم يُسَهِّلون على الناس حياتهم بإقراضهم المالَ، يقومون من خلاله بشؤونهم؛ جراء حفنة من المال يزيدونها ـ ظلمًا وعدوانًا ـ يُضْطَرُّ معه المحتاجُ إلى قبول تلك الصفقة الخاسرة، والعقدَ الذي مُلِئَ بالحرام، وغضب الله، والإجرام، واستنزال نقمة السماء؛ ومن ثَمَّ عبَّر القرآنُ عن انقلابِ حياة المرابين، وقلْبِ فكرهم، وضِيقِ نظرتهم، وضعف حجتهم بمجيء التشبيه المعتدل المستقيم مقلوبًا معكوسًا، لا يستقيم.

فقد أسهم هذا العدول البلاغي في إعطائنا فكرةً واضحةً، وموسعة عن وجهة نظر المرابي التي يُمًنِّي بها نفسه خطأً وانعدامِ فهم؛ ليسوِّل لنفسه زيادةَ أمواله من مدخل حرام، وسبيل مُجَرَّم، وطريق منقلبة، تجعل المجتمع كله في حالة فوران، وغليان، ونقمة على كل مَنْ هذا وَصْفُهُ، وذاك دأبُه، ويشيرون إلى داره بأنها الدار الظالمة، والدار التي تشعل البيوت بالنار، وتؤذن المجتمع بالهلاك، والدمار، ولا تجعلها تذوق طعم الراحة لا بالليل، ولا بالنهار، وتجأر إلى الله العزيز القوي، الجبار أن يجتثَّ شأفة هذا الدائنِ القاسِي الذي قلبه أشدُّ قسوة من الحجار، وأصلب من كل جدار؛ ومن ثم يستحق النار، وبئس القرار.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]