ما زال حبر الليل يملأ أيقونته بالسواد الحالك، ولكنها استيقظت ليس من أرق أو صداع وإنما لحياة هلامية الحال.. ضبابية المآل، توجهت بخفة نحو النافذة حتى لا توقظ أختها التي ما زالت تجفف بنومها ظنك الحياة المرهقة.. بسطت راحتيها على صعيد الشباك وعيناها تتأمل بُعد النجوم وتارة تتأمل سور البيت وما تتقصد لبناته البنية من إثارة للحزن على مصابها، وعادت بجسدها النحيل لعضيض الفراش محسورة الأنفاس، ولكنها لمحت نجمًا كان يزداد وضاءة توحي بنرجسية تبث الأمل لمستقبل أفضل، فكانت خيوطه حريرًا أدفأ مرقدها لتلك الليلة.
وكعادتهما تسوقان اﻷغنام في الصباح الباكر ليسبقن الرعاة إلى أبعد مرعى يكون بعده برقعا يغشى بين حيائهن، ووثبة أعين الغلمان، وعند اقتراب ساعة السقي تبدأ دقات القلب بالتسارع فتجيبه الأطراف بالانتفاض والشفتان بالتلعثم خوفا من دنو حيائهما من دائرة الأضواء، بيد أن ظمأ الشياه تجبرانهما على الاقتراب من المغدر، فتبدأ هي وأختها تذودانها عن الاقتراب، وما تذودان حقيقة إلا عن عفتيهما فهنالك يصير الاختلاط مرتعا لا يؤمن في معمعته خدش الحياء وانكسار المروءة، كان منظرا يثير من حوله نقعا من الغرابة، لفتت غرابته شابا غريبا عن المضارب كان مستظلا بشجرة وعيناه الغضيضتان تذرفان حياء منسكبا على خط الرمل والحصى تنشدانهما قصصا لا تنتهي، لكن نخوته أبت إلا أن تبادر بالعون، و بعد اتضاح علة (لا نسقي حتى يصدر الرعاة)، أضافتا:(.. وأبونا شيخ كبير) بدون مناسبة، نعم قد ينفجر القلب أحيانا ليفرغ عما يملؤه دون إذن مسبق وقد يستغل من السياق فرصة للاستطراد، وقد يكتفي بقطرة تلميح فيسهب منهلا ليطفئ بها شيئا من لهيب الجمر، فهنالك كشفت العفيفة ستار معاناتها وكأن عباراتها المتلعثمة تبرر حالها، وتروض لتيسير فَرَجا في آن.
تولى الشاب الصالح مهمة السقي عنهما بأمانة تربأ بنفسها عن استغلال الضعف لإرضاء المآرب الشهوانية، وهي من عفته هيهات، فسقى واستسقى وقفى لشجرته لتكمل عيناه حكايتها مع عد الحصى حكاية حبيب عيا غيابه فأعيى، بقلب لا ينفك عن مناجاة المولى (ربِّ إنّي لِمَا أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٍ).
وأخيرا وجدت العفيفة من يحرر ثوب حيائها من شبقة الأنظار، فسارعت ﻷبيها الكهل تروي له ما حدث بقالب يحثه على استئجاره لكن الشيخ الصالح تردد قليلًا ﻷنه لا يدري حقيقة مصداقيته، فتداركت تردده بشهادتها (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، فاقتطفت بهاذين الوصفين قناعة الأب فأمرها أن تأتي به، هنالك تحقق حلم العفيفة فاستئجار الشاب الصالح يعني لزومها بيتها وهو تمام حسنها كباقي الحسناوات الشريفات العفيفات، فعادت بسمتها تروي عينين لطالما أوحشتا من الحزن، وعادت الفرحة تضمد قلبا لطالما تعب من الوهن، إنه الفتح الإلهي يهبه من كان تقيًّا وأثبت صدق تقواه.
سامي بن محمد السيابي
كاتب عماني