العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية
.. فتجعل المشبهَ أقوى، وأوضح كثيرًا من المشبه به؛ مبالغةً في صفته، وتعجبًّا، وانبهارًا مما يتمتع به من الميزات التي جعلتْه يفوق المشبه به، ويخالف ما عليه جمهور البلاغيين، ويكسر تلك القاعدةَ البلاغيةَ، ويعلو بالمشبه على المشبه به لحِكَمِ، وعِلَلٍ يريد نقلها إلى المتلقِّي، وبَعْثَها في نفسه، ووضعَ تصورٍ جديد لم يكن الناسُ يعلمونه، ولم يكن في عقل العربي من قبلُ، ولم يره ماثلا بحالٍ من الأحوال حتى اشترعوه، وبيَّنوه.
وهنا يظهر مثلُ هذا العدول في التشبيه (أو العدول البلاغي) في قول المرابين الذين يعيشون على دماء الفقراء، وما يأخذونه من الديون لسدِّ فاقتهم، والنهوض ببعض حاجتهم، فيزيدون عليهم في ديونهم؛ استغلالا لحاجتهم، وشدة عَوَزِهِمْ، وفاقتهم، والفقراء لا يمكنهم الرفضُ، وقد أقعدهم الفقر، وأَتْرَبتْهُم المسغبةُ، فهم يرضخون لمطلبهم لضيق ذات اليد، وشدة احتياجهم إلى ذلك الدين من هذا القاسي المرابي الذي لا يرحم أنينهم، ولا يعبأ بعويلهم، ولا يأبه لقسوة الحياة معهم، فيكون سيفا مُسْلَطًا على رقابهم، ولا يسمح لهم بالاستدانة منه إلا بربًا فاحشٍ، وزيادة فوق طاقتهم، وله في ذلك حجةٌ مقلوبة، ورأي معكوس، وعقلٌ مُهْتَرِئٌ مَالَ به عن جادة الصواب، وقَلَبَ فكرَه، ورأيه، وحياته، فصار كَمَنْ يمشي على رأسه، ويفكِّر بِرِجْلَيْه، ويتعامل بقدميْه، فانقلب حاله، وانعكستْ فطرته، وارتكستْ طبيعته؛ جراء المال الذي بات إلهَه، وهواهُ، وهو الذي يحرِّك عقله، وتعاملاتِه، فأمسى كأنه لا عقلَ له، وأنَّ الموازين معه قد انقلبت، فأتى بالتشبيه المقلوب؛ ليكشف به عن الانقلاب الذي ملأ عقله، ونَخَرَ قلبه، وتعشَّش في فؤاده؛ وذلك لأنه يقول:(إنما البيع مثل الربا)، ومن قال: إن البيع الحلال الذي يترسم طريق الشرع، ومقاصد الدين، ورقة الإحساس يكون كالربا الذي هو امتصاص دماء المحتاجين وتجفيف عروق المساكين، ومعاملتهم أشر معاملة؟!، والربا هو أخذ نسبة من المال على قدر الدَّينِ المعطَى من المرابي، وكلما زادتْ مدة أداءِ الدين، واتسعت زاد الدينُ عليه من غير عمل من الدائن، اللهم إلا الوقتَ فقط الذي يسمح به، فلو أخذ المدينُ ألف ريال مثلًا، زادها المرابي إلى ألف، ومائتين، وإذا أخذ أكثر زاد في رباه أكثر، وزيادته الفاحشة التي لا عمل له تأتي من خلالها إلا مدة الزمن التي يسمح له فيها بإعادة الدين، فهي زيادة من الدائن بلا عمل، ولا تعب؛ استغلالا لفاقة الفقير، وإمعانًا في إذلاله؛ لضيق ذات يده، ولحاجته الماسة إلى المال للقيام بضروريات الحياة، وليس معه ما يقوم به، وينهض لإتمام حاجاته، ومتطلبات حياته، وظروفه المتعسِّرة في العمل، وتحصيل الرزق، والسعي على أولاده، وأطفاله، هذا منهم يحتاج إلى دواء، وذاك مفتقر إلى كساء، وذلك يحتاج إلى زواج، وتلك تتطلب عمل أشعة، على إثرها تقوم بعملية جراحية أخرى.
فيعطيه الدائن المالَ بشروط مجحفة، لا ينظر معها إلى فقره، وعَوَزِهِ، وشدة احتياجه، وهي شروط يطبِّقها على كلِّ المدينين، لا يرحم أفقرهم، ولا يحنُّ لأكثرهم حاجة، وإنما تطبَّق القواعد على الجميع، ولو كان المدينُ شديد الفقر، وأحدُهم أخذها ليوسِّع على نفسه، وليزداد تقديرًا في نفوسِ زائريه بأنه قد اشترى في بيته من الفُرُشِ والأثاث ما لم يوجد عند الكبراء، بينما الفقيرُ يستدين ليوفِّر لأولاده أدنى مستوًى من المعيشة التي لا فيها فخر، ولا كبرياء، فالغني الدائنُ لا يفرِّق، ولا يرحم في تخفيض تلك النسبة على كل فقير يستدين منه، ويودُّ الاقتراض للقيام ببعض أساسيات الحياة، واستيعاب الغلاء المتصاعد.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية