تولي سلطنة عُمان اهتماما متزايدا بالحارات والبيوت القديمة التي تعود جذورها إلى مئات السنين، حيث تجسد هذه الحارات الهوية التاريخية والثقافية للإنسان العماني عبر عصور قديمة، كما تعكس جماليات العمارة العمانية في أبهى صورها. هذه الحارات، التي كانت يوما نواة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعمانيين، نظرا لما تتميز به من خصوصية لافتة في تصميمها، وتجانس مبانيها، وترابط بيوتها الطينية التي احتضنت أجيالا من العمانيين لمئات السنين.
وخلال السنوات الأخيرة، برزت مبادرات أهلية وشبابية لإعادة إحياء هذه الحارات من حالة الاندثار، وتحويلها إلى مشاريع ذات طابع سياحي وتجاري مثل النزل السياحية التقليدية، المقاهي، والمعارض التراثية والفنية، وقد لاقت هذه المشاريع إقبالًا واسعا من المواطنين والسياح على حد سواء، نظرا لما توفره من تجربة ثقافية أصيلة، وقيمة تاريخية نادرة، واجواء احتفالية جاذبة ،غير أن هذا التوجه المتسارع نحو استثمار الحارات القديمة، وإن كان إيجابيا، فهو أيضا يطرح تحديات كبيرة تتعلق بمدى الحفاظ على هوية هذه الحارات، ومنع التشويه أو الاجتهادات الفردية التي قد تفقدها طابعها الأصيل، فغياب إطار تنظيمي واضح يضبط عملية التطوير، قد يؤدي إلى تحول هذه المواقع إلى مشروعات تجارية تفتقر إلى العمق التاريخي والثقافي، وتفقد الحارات العمانية هويتها المعمارية والروحية والمكانية التي هي جزء من أصالة هذا المجتمع.
من هنا، تبرز الحاجة لأن تبادر وزارة التراث والسياحة، بالتعاون مع الجهات المعنية الأخرى، إلى إعداد دليل استرشادي شامل وملزم، ينظم عملية تطوير واستثمار الحارات القديمة، ويضع شروطا ومعايير دقيقة تتعلق بالتصميم، والخدمات، واستخدام المواد التقليدية، وأسلوب البناء، مع مراعاة الأبعاد البيئية والثقافية والاجتماعية لهذه الحارات. إذ تعد تجربة «حارة العقر» في ولاية نزوى مثالا حيا على جدوى هذه المشاريع حين تدار بحكمة وتخطيط محكم ومنظم. فقد نجح أبناء الولاية في تحويل القرية إلى وجهة سياحية رائدة، رغم التحديات والصعوبات، وهم اليوم يعملون على معالجة الإشكاليات القائمة وتوسيع نطاق التطوير. هذه التجربة تؤكد أهمية أن تكون هناك رؤية وطنية متكاملة لإحياء الحارات، ترتكز على الشراكة بين المجتمع المحلي والجهات الحكومية والمستثمرين.
ان الحفاظ على الحارات القديمة والمواقع الاثرية هي مسؤولية وطنية تتطلب المحافظة عليها وعدم استثمارها بطريقة تقلل من مكانتها واهميتها التاريخية والاجتماعية، بل من المهم ان تعمل الجهات المختصة على رصد هذه المواقع وتصنيفها ووضعها في دائرة الاهتمام، هناك بعض الحارات القديمة فقدت ملامحها نتيجة عدم الاهتمام بها وهي حارات عريقة ضاربة في عمق التاريخ في الوقت الذي بدأت هناك حارات تتعرض للاندثار، وبالتالي فمن المهم إنقاد ما يمكن انقاذه من هذه الحارات والمواقع لتبقى رصيدا زاخر في عمق التاريخ العماني.
ومع امتلاك سلطنة عُمان لمئات الحارات القديمة في مختلف المحافظات، فإن إطلاق هذا الدليل سيكون خطوة استراتيجية تساهم في حماية التراث العُماني، وتعزيز استدامته، وتمكين المجتمعات المحلية من الاستفادة منه اقتصاديا، دون الإخلال بجوهره التاريخي والثقافي، كما يمكن للدولة، عبر ذراعها الاستثماري «عمران»، أن تدخل كشريك في هذه المشاريع بالتعاون مع أصحاب الحارات، إما من خلال التمليك الجزئي أو الكامل، أو عبر تأسيس شركات أهلية بإشراف حكومي، تضمن استثمارا منضبطا يعزز من جودة المشاريع السياحية، ويحل الإشكالات القائمة مثل النزاعات على الملكية، أو البيع العشوائي، أو عدم الالتزام بالمعايير.
يتسق هذا التوجه مع رؤية عُمان 2040 التي تضع القطاع السياحي كأحد أعمدة التنويع الاقتصادي، وتعطي أولوية كبرى للحفاظ على التراث المعماري وتوظيفه كرافد اقتصادي وثقافي. ومع ازدياد أعداد السياح والمشاريع السياحية، فإن الوقت قد حان للتحرك الجاد نحو وضع إطار تنظيمي حقيقي يضمن أن يكون استثمار الحارات العُمانية مشروعا تنمويًا متكاملًا لا يكتفي بالربح، بل يصون الذاكرة الجماعية للأمة.
مصطفى المعمري
كاتب عماني