لم يكُنِ اهتمام الباحث البغدادي حميد القيسي بتاريخ بغداد ودَوْرها في التاريخ معزولًا عن حُبه لبغداد، وإبراز المتحقق في مسيرتها حتَّى أصبحت منارة العِلم والحضارة والمعرفة، ومركز إشعاع للباحثين عن أسرار هذه المدينة، وتوثيق الحقب الَّتي مرَّت بها.
وينبع اهتمام القيسي بتاريخ بغداد عِندَما كان والده المرحوم خليل القيسي صاحب أهم مقهى في وسط بغداد أصبح ملاذًا لشخصيَّات بغداديَّة وجدت في هذا المكان مناسبة للتوقف عن دلالاتها ودَوْرها في توثيق مسيرتها الَّذي تحوَّل من مقهى إلى عنوان كبير، حاول الباحث تسليط الضوء على أبرز الأحداث الَّتي شهدها هذا المَعْلم عَبْرَ خمسة كتُب أصدرها كرَّسها للحديث عن بغداد والمقهى في تاريخ بغداد في العهد المالكي والجمهوري، كانت إضاءة على دَوْرها قَبل أن تأتي عمليَّات التحديث والتوسُّع العمراني الَّتي أتتْ على معالم شاخصة في مضمارها.
وحاول القيسي عَبْرَ الكتب الخمسة أن يظهر ويبرز دَوْر بغداد كشاهد عيان يحكي قصَّة مدينة كانت ولم تزلْ عنوانًا للرُّقي الحضري، وقِبلة للباحثين عن أسرارها، والمحطَّات المضيئة في تاريخها.
ومن فرْط حُبه لبغداد، وثَّق تاريخها عَبْرَ الكتب الخمسة الَّتي أصدرها تباعًا بعد غلق مقهى والده وهي (مقهى بغداد ذكريات وانطباعات، وبغداديَّات، ولمحات بغداديَّة في صميم الأحداث، وعَبْرَات بغداديَّة، ومرايا بغداديَّة).
وفي معرض استذكاره لتاريخ بغداد والأحداث الَّتي شهدتها يؤكد القيسي: إنَّ التعبير عن السجايا البغداديَّة الَّتي تتعرض لها تلك الكتب هي إجمالًا لِتعكسَ الواقع البغدادي لفترات عدَّة من أجمل العقود الَّتي مرَّ بها العراق وقلبُه بغداد، وصفَها بأنَّها أيَّام الزمن الجميل للجيل الحاضر.
ويشير إلى أن الأحداث الواردة في هذه الكتب ما هي إلَّا كتابات بغداديَّة يستطيع القارئ استقراءها وفَهْمَ معانيها لبسطاتها ومع ذلك في تسلكات حياتيَّة للشخصيَّات الَّتي تعايشت مع المُجتمع البغدادي خصوصًا، وانصهرت في الشخصيَّة العراقيَّة الَّتي عَبَّرَ عنها عالِم الاجتماع الدكتور علي الوردي بالقول: إنَّ التاريخ القريب والسلوك البغدادي الَّذي يبشر بمصلحة النَّاس هو الأولى بالدراسة واستخلاص العِبَر والأشد تأثيرًا في الأحداث المتتالية في عصرنا والمدخل لوضع الحلول لمشكلاتنا الآنيَّة اليوميَّة.
إنَّ كتُب القيسي الخمسة هي جولة على تاريخ مدينة كانت وما زالت تحكي حقبة مزدهرة وراقية ومؤثِّرة تستحق تسليط الضوء عليها. إنَّها انطباعات وذكريات ووقائع ارتبط جزء مِنها بحياة مقهى خليل القيسي، وهي مؤشرات واضحة على الكثير من الظواهر الاجتماعيَّة والنفسيَّة الَّتي سادت المُجتمع العراقي.
وعَبْرَ تاريخ بغداد التليد، يحاول القيسي أن يرسم ملامح المستقبل لهذه المدينة الَّتي لم تنطفئ أنوارها، وهذه الكتُب بمجملها وجوهرة مضامينها الاجتماعيَّة والسياسيَّة والمعرفيَّة والثقافيَّة ستغني المكتبة البغداديَّة.
ويستشهد الباحث البغدادي حميد القيسي بما قاله الروائي البريطاني (جورج أرويل) «إنَّ أفضل الكتب هو ذاك الَّذي يخبرك بمَن تودُّ معرفته حقًّا لِيشبعَ فيك فرصة التفكير كيف تتغير نَحْوَ الأحسن». إنَّها رسالة فخمة المضامين للوثوب إلى المُجتمع البغدادي ووجدانيَّته الأصيلة، ودَوْر رجالات بغداد ومشاهد الحياة فيها اختبرها الباحث طوال القرن العشرين لمدينة عمرها يمتدُّ لأكثر من ألف عام.
أحمد صبري
كاتب عراقي